المشهد الحزبي في تونس: ارتباك وانقسامات بعد قرارات سعيّد

المشهد الحزبي في تونس: ارتباك وانقسامات بعد قرارات سعيّد

01 اغسطس 2021
أنزلت "النهضة" مناصريها في 26 يوليو إلى الشارع للاحتجاج (فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -

يعيش المشهد الحزبي والسياسي التونسي على وقع تحوّلات عميقة منذ إعلان الرئيس قيس سعيّد عن قراراته، الأحد الماضي، والتي اعتبرها شق من الأحزاب "انقلاباً" فيما شق آخر وصفها بـ"تصحيح للمسار" وتأرجح آخرون بينهما مطالبين بضمانات للخروج من الأزمة. وحوّلت قرارات سعيّد مسرح الصراعات والانقسامات من الشارع التونسي إلى الجسم الحزبي وداخل هياكل الأحزاب، التي تتخبّط داخلياً بين الرفض والمساندة وعدم الانحياز، لتبرز تحالفات جديدة وتطفو الأحزاب غير البرلمانية من جديد على الساحة وتتصدر المشهد بالتصريحات بعد تجميد البرلمان وتعليق قواعد اللعبة الديمقراطية. وفيما يتوقع مراقبون تبعات كبيرة على الأحزاب والمشهد السياسي بعد هذه المرحلة، مع تراجع بعضها، مقابل صعود أخرى سارعت لدعم قرارات سعيّد أو غيّرت رأيها من الرفض إلى المساندة لركوب موجة الشعبوية.

وتسارعت مواقف الأحزاب منذ الساعات الأولى في ديناميكية ملفتة، فسارعت الأحزاب البرلمانية الثورية إلى مناهضة موقف سعيّد بتفعيل الفصل 80 من الدستور القاضي بتجميد البرلمان ورفع الحصانة عن نوابه وإعفاء رئيس الحكومة هشام المشيشي. ووصفت هذه الأحزاب ما حصل بـ"الانقلاب" و"الخرق الدستوري الجسيم" و"إسقاط النظام الجمهوري" وأعربت عن قلقها من "العودة إلى نظام الحكم الفردي المطلق" و"الديكتاتورية" فيما ساندت أحزاب صغيرة أخرى خيارات سعيّد. وتعاملت مجموعة ثالثة من الأحزاب بحذر شديد مع القرارات بين تبرير قبولها لخطورة الوضع الاجتماعي والاقتصادي والمطالبة بضمانات لحماية الديمقراطية. في المقابل، بدا موقف المنظّمات الوطنية والنقابات والهيئات أكثر تناغماً من الأحزاب، وأكدت تمسّكها بالمكاسب القانونية والحقوقية من دون التعبير الصريح عن رفض مبادرة سعيّد أو دعمها.

وأوجدت قرارات سعيّد انقسامات داخل الأحزاب، طاولت أكثرها تنظيماً وانضباطاً مؤسساتياً على غرار حركة "النهضة" التي تدفع مجموعة مهمة فيها إلى التغيير داخلها، ووصلت إلى حدّ المطالبة بتغيير القيادة الحالية. وتبدو الأوضاع داخل "النهضة" معقّدة، فعلى الرغم من اتفاق قياداتها مع قواعدها على أنّ ما أقدم عليه سعيّد خرق للدستور وتهديد للديمقراطية وللمؤسسات، فإنّ طيفاً هاماً من النهضويين يرون أنّ هناك إخفاقاً في فهم الواقع الاجتماعي وفي الاستجابة للمطالب الشعبية، عازين ذلك إلى أخطاء على مستوى قيادة الحركة تستوجب المراجعة والتصحيح.

تدفع مجموعة مهمة في حركة "النهضة" إلى تغيير داخلها

ودعا أكثر من 130 شاباً من حركة "النهضة" ومن بينهم خمسة نواب، في بيان تحت عنوان "تصحيح المسار" رئيس الحركة راشد الغنوشي إلى تغليب المصلحة الوطنية، واتخاذ ما يلزم من إجراءات من أجل تونس، لتأمين عودة البرلمان إلى سيره العادي واستعادة الثقة في هذه المؤسسة. كما دعا أصحاب البيان، القيادة الحالية للحركة، إلى تحمّل المسؤولية كاملة عن التقصير في تحقيق مطالب الشعب التونسي، وتفهم حالة الاحتقان والغليان، إذ لم تكن خيارات الحزب السياسية والاقتصادية والاجتماعية وطريقة إدارتها للتحالفات والأزمات السياسيّة ناجعة في تلبية حاجيات المواطن".

مقابل ذلك، أكد الغنوشي في تصريحات صحافية "الاستعداد لتقديم تنازلات شرط عودة المؤسسات وحماية المسار الديمقراطي" مشدداً، في جميع أحاديثه، على أنّ ما حدث انقلاب وخرق للدستور، وأنّ تبعاته ستكون وخيمة على جميع المستويات. واستنجد الغنوشي بالتونسيين لحماية ثورتهم وديمقراطيتهم بشكل سلمي. كما سجل المشهد الحزبي انقلاباً في موقف حلفاء الحكم، إذ سارع حزب "قلب تونس" الشريك الأساسي في التوليفة البرلمانية المساندة لحكومة المشيشي المقال، إلى القفز من مركب الدفاع عن الشرعية الانتخابية وعن المؤسسات الديمقراطية، فسرعان ما غيّر الحزب موقفه من رفض الخرق الجسيم للدستور إلى قبول القرارات والترحيب بقيادة سعيّد للمرحلة، حتى التنصل من التحالف مع "النهضة".

ولم تقف الانقسامات الداخلية عند أحزاب الحكم، بل كانت تبعات القرارات واضحة على المعارضة، ففرقت بوضوح تحالف "الكتلة الديمقراطية" البرلمانية (38 عضواً) التي انقسمت إلى شقين، فانحازت حركة "الشعب" (16 نائباً) إلى سعيّد، معتبرة أنّ قراراته تدخل في سياق تصحيح المسار الديمقراطي. فيما ذهب "التيار الديمقراطي" لمعارضة هذا المسار وعبّر عن اختلافه مع تأويل الرئيس للفصل 80 من الدستور، معلناً رفضه ما ترتب عليه من قرارات وإجراءات خارج الدستور. ولم يسلم "التيار الديمقراطي" من انقسامات داخلية، فسارع عدد من قياداته إلى التعبير عن مواقفهم الرافضة ومخالفة بيانه الرسمي، وأعلنت القيادية فيه سامية عبو أنّ قرارات سعيّد دستورية وتاريخية وجاءت لاستعادة البلاد من الفاسدين. وشاطر عبو الرأي عدد من النواب والقيادات، على غرار النائبة منيرة العياري.

وقصمت قرارات سعيّد وحدة الحزب الجمهوري المعارض (غير ممثل في البرلمان) الذي اختلف قادته بين شق يتزعمه الأمين العام عصام الشابي، المعروف بانحيازه للثورة والديمقراطية، والذي سارع لاعتبار قرارات سعيّد انقلابية، وبين شق آخر على مستوى مركزية الحزب يبحث عن إحداث تغييرات في المشهد وإبعاد "النهضة"، ليختار إعلان موقف مساند لسعيّد، ما فاجأ الرأي العام بصدور بيانات متناقضة وتعليقات متعارضة تحمل شعار الحزب.

كما دفعت قرارات سعيّد إلى انقسام أيضاً داخل جسم اليسار التونسي المعارض، فاختار حزبا العمال والقطب رفض هذه القرارات بشدة، فيما ذهب الأمين العام لحزب العمال، حمة الهمامي، إلى وصف سعيّد بالديكتاتور، داعياً إياه إلى الرحيل مع كامل المنظومة، معتبراً ما قام به انقلاباً وجمعاً للسلطات في يد فرد واحد. مقابل ذلك، اجتمعت مجموعة من أحزاب يسارية أخرى من بينها حزب الوطنيين الموحد، والتيار الشعبي، والديمقراطي الاشتراكي، وحزب تونس إلى الأمام، في خانة الحذر أولاً، وامتنعت عن التنديد بقرارات سعيّد، مع ترحيبها بإزاحة منظومة الحكم.

دفعت قرارات سعيّد إلى انقسام داخل جسم اليسار التونسي المعارض

واعتبر المحلل السياسي شكري بن عيسى، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أنّ سعيّد ضرب الأسس الواقعية للأحزاب، ذلك أنّ تحرك 25 يوليو/ تموز الماضي جاء من خارج الأحزاب التي تخلّفت عنه، بما يثبت أنّ هذه الأحزاب ليست لها فاعلية، إذ إنّ القرار الشعبي الذي اتخذه سعيّد جاء من فرد من خارج الأحزاب، وبالتالي ستتم محاسبة هذه الأحزاب على أنّها لم تكن فاعلة ولم تصوب البوصلة عندما احتاج لها الوطن. ولفت إلى أنّ "الزلزال الذي أحدثته قرارات سعيّد خلق انقسامات وصراعات داخلية في الأحزاب التي لم تعدّل ساعتها على ما حدث قبل 25 يوليو، لتجد نفسها اليوم في حالة ارتباك شديد لعدم اتضاح الرؤية والضبابية التي تسودها"، معتبراً أنّه "لا يوجد تداول وتشاركية داخل أبرز هذه الأحزاب، وبالتالي فإنّ هذه المحطات من شأنها أن تبرز الإدارة العقيمة داخلها".

وأشار بن عيسى إلى أنّ "هناك نوعين من الأحزاب، التي كانت حاكمة وجاء ضدها منعرج 25 يوليو، وأخرى معارضة كالتيار وحزب العمال". وأضاف: "بالنسبة للنهضة كان منتظراً أن تحصل خلافات باعتبار أنّ القرارات الأولى كانت أحادية من الغنوشي، ولم تتم استشارة الحركة بشكل معمّق، وهو ما يفسر هذا الانشقاق داخل النهضة". وأضاف "بوجود تحريض ضد النهضة ودعوات لاستئصالها ومنعها من الوجود القانوني، عزز ظهور شق داخل النهضة مقابل الشق الراديكالي لنور الدين البحيري وراشد الغنوشي وعلي العريض، هو شق براغماتي يبحث عن المحافظة عما يمكن المحافظة عليه في هذه الزوبعة العنيفة".

ولفت بن عيسى إلى أنّ "التيار الديمقراطي يعاني بين الشق المتمسك بالشرعية القانونية والشق الذي يبحث عن الركوب في سفينة الرابحين بمنطق الشعبوية وراء أغلبية الجماهير"، مضيفاً أنّ "اليسار التونسي مشتت ويغلبه منطق الزعاماتية بقدر منطق المبدئية". واعتبر أنّ "جميع الأحزاب تعيش التمزق والتشتت لأنّها تطغى عليها الزعاماتية من دون منطق ديمقراطي وإدارة عقلانية تشاركية".

من جهته، رأى المحلل السياسي ماجد البرهومي، في حديث مع "العربي الجديد"، أنّ مواقف سعيّد من الأحزاب السياسية تُبيّن رفضه لمنظومة الأحزاب من خلال انتقاده لها في العديد من المناسبات، وهو حمّل المنظومة الحزبية والبرلمان في أكثر من مناسبة مسؤولية تردي الأوضاع، وبرز هذا الموقف برفضه إطلاق حوار مع الأحزاب، وحتى عند التشاور على التشكيل الحكومي تفادى الجلوس معها واختار مراسلتها كتابياً، فيما تشاور والتقى المنظمات الوطنية وممثلي المجتمع المدني.

وأضاف البرهومي أنّه خلال السنتين الأخيرتين منذ انتخابات 2019 تشوّهت صورة الأحزاب السياسية بشكل كبير بسبب ممارسات قياداتها وحيادها عن الخيارات الحقيقية للشعب وعن مطالبه، وقد انعكس ذلك بوضوح في نتائج استطلاعات الرأي وفي العزوف الواضح عن التصويت في الانتخابات البلدية والتشريعية، معتبراً أنّ انتخاب سعيّد بوصفه شخصية مستقلة ومن خارج الأحزاب في 2019 بنسبة مهمة من الأصوات يعبّر عن رفض جزء مهم من الشعب، وخصوصاً من الشباب، الأحزاب ورغبته في أن يكون التغيير من خارجها.

وأشار البرهومي إلى أنّ تبعات القرارات الأخيرة على الأحزاب والمشهد السياسي ككلّ ستكون فاصلة، ومن الطبيعي أن يكون تأثيرها واضحاً على شعبية الأحزاب وحضورها، فهناك أحزاب ستتقهقر وأخرى ستصعد بشكل لافت، ما يفسر مسارعة بعض الأحزاب الصغيرة وغير الممثلة في البرلمان والتي خسرت في الانتخابات، للإدلاء بمواقف مساندة لسعيّد، أو تغيير بعض الأحزاب مواقفها من الرفض إلى المساندة.