المافيا في الرئاسيات الأميركية: تاريخ يصطف خلف ترامب

المافيا في الرئاسيات الأميركية: تاريخ يصطف خلف ترامب

11 أكتوبر 2020
أحد مناصري ترامب امام برج الرئيس (ستيفاني كيث/Getty)
+ الخط -

لا تقتصر العوامل المؤثرة بالناخبين الأميركيين وبالانتخابات الرئاسية الأميركية على الإعلام والأموال والاقتصاد والعنصرية وكورونا أخيراً فقط، بل ثمّة عنصر يتجاهل كثر دوره في انخراطه في البنية الأميركية، اقتصادياً واجتماعياً. ومع أنها مصنّفة بكونها "عالماً موازياً" إلا أن تأثيرها على "العالم الشرعي" تنامى بشكل مخيف بعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، وصولاً إلى قدرتها على ترجيح كفة مرشح للانتخابات الرئاسية الأميركية. لم تعد المافيا الإيطالية مجرّد رجال يهربون من الشرطة في عشرينات وثلاثينات القرن العشرين، بل مجموعة تصطف خلف مرشحها الأوحد: دونالد ترامب.

استعان ترامب بشركات الخرسانة التابعة للمافيا لبناء برجه في نيويورك

ترامب ليس غريباً عن هذه الأجواء، فقد عاش بينها طيلة سنواته الـ70 قبل انتخابه رئيساً في عام 2016، حتى أنه لا يعادي عناصر المافيا. وذكرت صحيفة "غارديان" البريطانية، أن ظهور ترامب على قناة "سي بي أس" في عام 2013، في مقابلة مع ديفيد ليترمان كان لافتاً، فحين سأله الأخير: "هل قمت بأعمال مع أعضاء الجريمة المنظمة (يقصد المافيا)؟"، تجهّم وجه الرئيس الأميركي وردّ "حاولت أن أبقى بعيداً عنهم قدر الإمكان". وتابع "تعلم، حين تنمو في نيويورك وتعمل فيها، ربما يكون أمثالهم في الجوار، لكن بشكل عام أحب أن أبقى بعيداً عنهم". قبل أن يردد "إنهم أشخاص لطفاء، عليك فقط أن لا تدين لهم بالمال".

لكن كلام ترامب المعسول، يخفي الكثير، ففي تحقيق عن "برج ترامب" في نيويورك الذي بوشر تشييده عام 1979 وانتهت الأعمال فيه عام 1983، ذكرت الكاتبة غابرييل بروني في مجلة "إسكواير"، أن علاقة ترامب كانت أعمق مما كان يظنّ مع المافيا، وهو ما كشفه بشكل عابر، وثائقي "مدينة الخوف: نيويورك ضد المافيا"، الذي باشرت "نتفليكس" عرضه على منصتها في 22 يوليو/تموز الماضي. تحدث الوثائقي عن مشاركة شركات الخرسانة المرتبطة بالمافيا ببناء برج ترامب، لكن "إسكواير" كشفت أن الزعيم السابق لعائلة غامبينو الإجرامية، سامي غرافانو، ردّد أن "أميركا لا تحتاج إلى مثقف لرئاستها، بل إلى زعيم عصابة"، في سياق دعمه لترامب، وهو بطبيعة الحال دعم عائلات المافيا جميعها. وأشارت الكاتبة إلى أن ترامب لم يسعَ إلى تجنب المافيا، كما قال لليترمان، بل حاول تمتين علاقته معها وتطويرها، حتى أن تعاونه مع شركات الخرسانة التي تسيطر عليها المافيا، لم يقتصر على البرج فقط، بل تعداه إلى الكازينوهات والسوق العقاري. وكشفت بروني أيضاً عن علاقة المحامي روي كون، الذي توفي عام 1986، بترامب. كون كان أحد المحامين الذين لفتوا نظر رئيس "أف بي آي" جون إدغار هوفر، الذي وجّهه للسيناتور جوزف مكارثي. رافق كون صعود المكارثية التي حاكمت المعارضين في الولايات المتحدة واتهمتهم بالانتساب لـ"الشيوعية"، ثم سقوطها. لاحقاً نُقل إلى نيويورك كمدّع عام، فأصبح صديقاً لطوني ساليرنو زعيم عائلة جينوفيزي، وكارماين غالانتي زعيم عائلة بونانو، وبول كاستيلانو زعيم عائة غامبينو. وبحكم علاقته القوية مع ترامب، فقد عرّفه على هؤلاء، ليرتبط ترامب بعلاقة قوية مع ساليرنو. وحول التعاون مع شركات الخرسانة قال مايكل فرانزيزي، أحد عناصر المافيا التائبين، إن ترامب "لم يكن لديه خيار في بناء برجه، سوى التعاون معنا". وهو ما تجلى بحكم قضائي على ساليرنو بمحاولة ابتزاز ترامب، فغُرّم بـ8 ملايين دولار.

بدوره ذكر رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي ىي" جيمس كومي في كتابه "ولاء أكبر: الحقيقة والأكاذيب والزعامة"، الصادر عام 2018، أن ترامب يتصرف "كرجل مافيا"، متطرقاً إلى "برج ترامب". كتب كومي عما سماه "نوادي المافيا" و"الولاء الكامل للرئيس، ما جعل الكذب في كل الأمور، صغيرة أو كبيرة، في خدمة شيفرة الولاء، التي تضع المنظمة فوق كل الاعتبارات الأخلاقية والحقيقة". حتى أن المختص بتاريخ المافيا، كريستيان تشيبوليني، تحدث لـ"أوبزرفر" في عام 2018، عن سيطرة ترامب على حيّ مانهاتن النيويوركي كمطوّر عقاري، مرتبط بشركات الخرسانة الضخمة، وعن نقله المافيا إلى مستوى جديد في السلطة، أي الرئاسة لاحقاً. وحول هذا ذكر ديفيد لوف في "واي.أورغ" عام 2017، أن "الاقتصادي جورج سوروس وصف في منتدى بروكسل الاقتصادي أميركا بأنها دولة مافياوية، أي محكومة بشخص واحد يفرض قوانينه الخاصة على حساب الديمقراطية".
ويرى الكثير من المراقبين، أن دعم المافيا لترامب حالياً "حتمي" على اعتبار أن النمو الاقتصادي الذي فرضه، ملائم لنشاطاتها من جهة، واستعادة أرباحهما التي خسرتها من جهة أخرى في العام الحالي بسبب كورونا.

ولا يُعدّ تحالف المافيا مع ترامب جديداً على المستوى الرئاسي، فبعد الحرب العالمية الثانية (1939 ـ 1945)، تراخت القبضة الأميركية تجاه المافيا، خصوصاً بفعل سطوتها وتأثيرها على الاتحادات العمالية. حتى أن الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون كان من المقرّبين منها. فقد كشف الكاتب دون فالسوم في كتابه "رئيس المافيا: نيكسون والعصابة" الصادر عام 2017، أن نيكسون كان يحب الاختلاط مع رجال المافيا ولعب القمار والتربّح من المبيعات العقارية. وقارن فالسوم نيكسون بترامب "الرجلان يتصرفان بدافع أناني عال وطموحات شخصية". وأشار إلى العلاقة الغامضة التي ربطت نيكسون رئيس نقابة "سائقي الشاحنات الدولية" جيمي هوفا، وتلقي الرئيس مبلغ مليون دولار من الثاني. مع العلم أن نيكسون استقال عام 1974 بعد "ووترغيت" (1972) حين حاول التجسس على الحزب الديمقراطي في مبنى "ووترغيت"، فيما "اختفى" هوفا في 30 يوليو 1975، قبل أن تُعلن وفاته عام 1982.

ترامب عن عناصر المافيا: إنهم أشخاص لطفاء، عليك فقط ألا تدين لهم بالمال

أما جيف بوربانك فذكر في كتابه "ذا موب ميوزيوم" أن نيكسون تهرّب من الرد على سؤال حول كيفية محاربته العصابات الإجرامية خلال حملة انتخابه عام 1968، موضحاً أن الرئيس شبك علاقات قوية مع المافيا في نيويورك وشيكاغو ولوس أنجليس ولاس فيغاس، وأن العصابات دفعت ملايين العمال عبر الاتحادات العمالية إلى انتخاب نيكسون. ومع أن نيكسون ساهم في إقرار قانون "ريكو" (القانون المختص بملاحقة المافيا) عام 1970، إلا أنه عمل جاهداً على إبعاد "أصدقائه" عن الواجهة.

لكن المافيا لم تكن قط متأصلة في الولايات المتحدة، بل إن مسيرتها بدأت في عام 1892 مع فرار الإيطالي جيوزيبي موريلّو من موطنه في بلدة كورليوني في جزيرة صقلية الإيطالية إلى ولاية نيويورك الأميركية لارتكابه سلسلة من الجرائم، بين قتل وخطف وسرقة في موطنه. لم يكن هروبه كهروب معظم من توافدوا إلى "الأرض الجديدة" سعياً لحياة أفضل، بل كان هروباً أدى إلى تشكيل النواة الأولى للمافيا الإيطالية، بين الأحياء الصغيرة للمهاجرين الإيطاليين. مهّد موريلّو لتشكيل العائلات الإجرامية في الولايات المتحدة، التي اتسعت وتغلغلت في الاتحادات العمالية والحزبين الجمهوري والديمقراطي والأسواق والكازينوهات والملاهي والأسواق العقارية والشرطة. وتراوحت نشاطاتها بين الابتزاز، والتهريب، والاحتيال، وغسل الأموال، والقمار غير القانوني، وتهريب الأسلحة، وتهريب المخدرات، والقتل، والدعارة وغيرها.

وكغيرها من الأجسام التي تنشأ بسرعة، سادت الفوضى وسط العائلات الإجرامية، فكانت الحروب الداخلية بينها مؤشراً على تزايد العنف المحلي، الذي سرعان ما اتسع إلى درجة عجز الشرطة الأميركية عن وقفها. لم يقتصر العنف على نيويورك وأحيائها، بل انتشر إلى أكثر من 26 مدينة في الولايات المتحدة، أبرزها شيكاغو وديترويت ونيو أورليانز. ترافق العنف مع الكساد الكبير عام 1929، الذي أدّى إلى شحّ في الأموال، ما أفضى إلى وقوع حرب بين العائلات، بين فبراير/شباط 1930 وإبريل/نيسان 1931، أدت إلى انتصار سالفاتوري مارانتزانو في حرب سُميّت "حرب كاستيّاماريزي"، وتشكيله كياناً مشكّلاً من 5 عائلات تحت قيادته، وهي مارانتزانو وبروفاتشي ومانغانو ولوتشيانو وغاغليانو، التي تحولت لاحقاً إلى عائلات بونانو وكولومبو وغامبينو وجينوفيزي ولوكيزي على التوالي.

قُتل مارانتزانو على يد حليفه تشارلز "لاكي" لوتشيانو، في سبتمبر/أيلول 1931، الذي أعاد هيكلة المافيا ضمن منظومة سماها "اللجنة". ويمكن اعتبار تأثير لوتشيانو، بالتعاون مع ماير لانسكي، على ازدهار المافيا أكبر بكثير من آل كابون مثلاً، خصوصاً أن النشاط الإجرامي توسع إلى كوبا، مع تحوّل ولاية فلوريدا إلى مركز جديد وهام للمافيا.

حاولت السلطات الأميركية وقف المسار التصاعدي للمافيا، فأوقفت كابون بتهمة التهرّب من دفع الضرائب، ولوتشيانو بتهمة الدعارة. لكن مكتب التحقيقات الفيدرالي "أف بي آي"، عاد وطلب مساعدة لوتشيانو خلال الحرب العالمية الثانية. فإبان محاولة الحلفاء اقتحام إيطاليا، ساد الاتفاق على اختراقها من جهة صقلية في "عملية هاسكي"، بين 9 يوليو/تموز و17 أغسطس/آب 1943. احتاجت القوات الأميركية والبريطانية إلى دعمٍ ميداني، فكان طلبها الاستعانة بلوتشيانو، الذي قام باتصالاته مع المافيا في صقلية، ممهداّ الطريق لأكبر إنزال للحلفاء، قبل إنزال النورماندي الفرنسية في 6 يونيو 1944. في المقابل، أطلقت واشنطن سراح لوتشيانو، الذي كان محكوماً عليه بالسجن مدى الحياة، ونُفي إلى إيطاليا حيث توفي فيها.