المؤسسة الأمنية الإسرائيلية ومحاولات فهم مقاومة الفلسطينيين
استمع إلى الملخص
- تعتمد إسرائيل على استراتيجية الردع وفرض القيود لمنع العمليات، لكن الأحداث الأخيرة كشفت عن عدم فعالية هذه الاستراتيجية، مع اعتراف مسؤولين بأخطاء في تقديراتهم.
- تتبنى إسرائيل مقاربة استشراقية تُبسط سلوك الفلسطينيين، متجاهلة التنوع والتعقيدات، مما يؤدي إلى فهم سطحي وغير دقيق للواقع الفلسطيني.
على مدار السنوات الماضية، انشغلت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية بنقاشات واسعة تهدف إلى فهم دوافع منفذي عمليات المقاومة ضدّ قوات الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية، تارة من خلال محاولة تصنيف الفلسطينيين في قوالب جاهزة، وتارة أخرى من خلال التعامل مع المجتمع الفلسطيني وحدةً واحدة يمكن فهمها بمعادلة أمنية بسيطة وواضحة، كانت ذات سمات استشراقية في كثير من الأحيان، وهو نقاش عاد مجدداً خلال الشهور السابقة تجاه المقاومين في مدينة جنين في الإعلام العبري، لكنه جاء هذه المرة بعدما فشلت توقعات إسرائيل في رسم صورة واضحة عن نموذج المقاوم المحتمل، بعدما نفّذ فلسطينيون من عائلات ذات وضع اقتصادي واجتماعي مستقر، عدة عمليات ضد قوات الاحتلال.
وفي سبيل محاولة الفهم البائسة تلك، وظفت إسرائيل مواردها البحثية والصحافية والاستخبارية، لكنها في كل مرة كانت تفشل في تحديد من هو "الإرهابي القادم"، على حد تعبير باحث إسرائيلي أمني في حديثه مع صحيفة هآرتس في عام 2022، موضحاً أن "أزمة إسرائيل أنها تتعامل مع الفلسطينيين بناءً على حسابات اقتصادية ونفسية ودينية فقط، متجاهلةً ما هو أبعد من تلك العوامل".
قوالب جاهزة
بعد موجة واسعة من عمليات الدهس والطعن التي نفذها فلسطينيون في القدس المحتلة والضفة الغربية خلال عام 2015، والتي فشلت إسرائيل بإحباط جزء كبير منها، سارع جهاز الشاباك الإسرائيلي بنشر بيان، قال إنه يأتي لتوضيح ما توصل إليه الجهاز عن خلفية منفذي العمليات. وبحسب البيان، فإن "تقييم المؤسسة الأمنية الإسرائيلية يشير إلى أن دوافع الإرهابيين الشباب ترتكز على مشاعر الحرمان الوطني والاقتصادي والشخصي، فضلاً عن المشاكل الشخصية والنفسية". وأضاف البيان أن "العمليات بالنسبة إلى بعض مرتكبيها تتيح لهم الهروب من واقع محبط، لا يمكن تغييره في نظرهم (...) ما يحصل هو أنشطة غير منظمة ومؤسسية، بل لها طابع عفوي وشعبي".
قبل عام من بيان جهاز الشاباك، وتحديداً في نوفمبر/ تشرين الثاني من عام 2014، كانت العمليات من مدينة القدس المحتلة قد بدأت تتصاعد، وأدت لاحقاً إلى اندلاع هبّة شعبية واسعة، وفي محاولة منها لوصف ما يجري، نشرت صحيفة يديعوت أحرونوت تقريراً لها بعنوان "أعزب، شاب ومستقل: ملامح الإرهابيين"، في محاولة منها لفرض تصور أولي عن منفذي العمليات الاستشهادية في مدينة القدس. تقرير لم يختلف في محتواه عما جاء في بيان الشاباك، إذ ألمح التقرير بصيغة واثقة، إلى أن هذه الصفات صفات معظم منفذي العمليات ضد إسرائيل.
لم يكن هذا الوصف بعيداً عن الحسابات الأمنية الإسرائيلية على أرض الواقع، حيث ترفض المؤسسة الأمنية الإسرائيلية منذ سنوات منح تصاريح عمل لغير المتزوجين، أو الذين تقل أعمارهم عن 22 عاماً. خطوة يفهم من خلالها التصور الإسرائيلي تجاه الفلسطينيين، حيث تعتقد منظومة الاحتلال الأمنية أن الأفراد المستقرين مادياً واجتماياً أقل عرضة لتنفيذ عمليات ضد إسرائيل.
عقلية الردع وفرض القيود
لفهم هذا التصور الإسرائيلي، يجب العودة إلى تشكل العقلية الأمنية الإسرائيلية، حيث يرى الباحث الفلسطيني المختص في دراسات الأمن الإسرائيلي، فادي نحاس، أن "واضعي السياسة الأمنية في إسرائيل يتحركون من خلال محاولة فهم وتقدير سلوك خصوم إسرائيل، مستندين إلى الافتراض القائم على أن السمة الأساسية لتحرك الخصم ليست إلا عبارة عن استجابة للفرص والقيود التي توفرها البيئة الاستراتيجية المحيطة به، وكيفية رؤيته لها، إضافة إلى توفر عاملي التحفيز والقدرة لديه".
وبالتالي، إن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تحاول، رداً على أي محاولة لاستهدافها، بحسب نحاس، "إبقاء القيود قائمة وتعزيزها منعاً لشن حرب أو أعمال عدائية ضدها، إضافة إلى إبعاد الفرص عن متناول أيدي أعدائها. وهذا المطلب يتحقق من خلال قدرة الردع التي تملكها إسرائيل وتظهرها لعدوها وتسقطها على وعيه، وهو ما يجسد للخصم عدم قدرته على إلحاق الضرر بإسرائيل (...) أو أن ما سيقوم به لن يجلب له منفعة، بل عوائد تزيد في الضرر والخسائر التي ستلحق به".
رفض موشيه ديان عام 1967 مقترحًا من رئيس قوات الأمن العام الإسرائيلي يوسف هارميلين، ينص على التعامل مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بالأسلوب نفسه التي تعاملت معه إسرائيل مع الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني
هذا التصور الذي كانت تملكه إسرائيل، والذي أشار إليه نحاس في فصل المؤسسة الأمنية والعسكرية في كتاب "دليل إسرائيل" الصادر عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، سرعان ما بدأ يخفت صداه مع العملية التي شنتها فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة على مستوطنات غلاف القطاع. ظهر هذا من خلال تصريحات أدلى بها رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي تساحي هنغبي، الذي اعترف بأنه أخطأ في تقديره عندما قال إنّ "حركة حماس مردوعة ولن تجرؤ على التحرك ضد إسرائيل لسنوات طويلة"، وللمفارقة، أدلى هنغبي بهذه التصريحات التي اعتذر عنها قبل خمسة أيام فقط من اندلاع عملية "طوفان الأقصى".
بالإضافة إلى هذا كله، عمدت إسرائيل إلى سياسات رادعة تجاه الفلسطينيين على مدار السنوات الماضية، تهدف بالأساس إلى استعراض القوة الدائمة، على غرار حملات العقاب الجماعي في البلدات الفلسطينية، وسياسة الحواجز، وهدم منازل عائلات منفذي العمليات الفدائية، وغيرها الكثير، في محاولة لفرض تصور مفاده أن "على من يفكر في تنفيذ أي عملية ضد إسرائيل، التفكير في تبعات هذه العملية على شعبه وعائلته، إن لم يرد التفكير في تلك التبعات على مستواه الشخصي".
تطبيع الاحتلال.. وتحولات آليات الرقابة
هذه الرؤية، وإن كانت دائماً حاضرة في النقاش الإسرائيلي، إلا أنها لم تستخدم دائماً في سياق الضفة الغربية وغزة، بل حاولت بعض القيادات الإسرائيلية فرض رؤية مختلفة للتعامل مع الفلسطينيين بعد احتلالها في عام 1967، منطلقة من محاولة فرض "سياسة التطبيع" في الأراضي المحتلة، أي "السماح للفلسطينيين بممارسة حياتهم وأنشطتهم تمامًا كما كان الحال قبل فرض الاحتلال". هذه التصور كان عرابه الأساسي وزير الأمن الإسرائيلي حينها موشيه ديان، الذي رفض مقترحًا من رئيس قوات الأمن العام الإسرائيلي حينها يوسف هارميلين، ينص على التعامل مع الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة بالأسلوب نفسه التي تعاملت معه إسرائيل مع الفلسطينيين في الداخل الفلسطيني منذ عام 1948 وحتى عام 1967، أي فرض الحكم العسكري عليهم، والتدخل في شؤونهم اليومية ومحاولة ضبطهم بشكل دائم.
تظهر كل تلك التحولات، أن المنظومة الأمنية الإسرائيلية تستند في مقاربتها للفلسطينيين إلى منطق استشراقي يمثل الآخر (الفلسطينيين) كمجموعات متجانسة، تحاول إخضاع سلوكهم لقواعد جاهزة، يمكن فهمها بمعادلة أمنية بسيطة
اعتمد ديان حينها هذا الأسلوب لسنوات لاحقة، وباتت هذه الآلية تعرف بنظام "الاحتلال الخفي"، كما يوضح الباحث الإسرائيلي نيف غوردون، الذي يرى أن هذا الأسلوب من الضبط انهار مع مرور السنوات وصولاً إلى اتفاقية أوسلو. وفي محاولة لعرض هذه التحولات، يعرض غوردون مثالاً لذلك من قطاع غزة، حيث يوضح أن واحداً من التغييرات المهمة التي برزت بمرور السنوات، كان علاقة الحكومة الإسرائيلية بالأشجار، ففيما ساعدت إسرائيل الفلسطينيين في قطاع غزة، عام 1967، في غرس 618000 شجرة، وقدمت للمزارعين أنواعاً محسنة من بذور الخضار ومحاصيل الحقول، فإنها دمرت خلال السنوات الثلاث الأولى من الانتفاضة الثانية أكثر من 10 بالمائة من الأراضي الزراعية في غزة، واقتلعت أكثر من 226000 شجرة.
مثال آخر على تلك التحولات في إسرائيل، نظام منح التصاريح، إذ اعتمدت المؤسسة الأمنية الإسرائيلية على آلية تتغير بشكل متواصل في ما يتعلق بمنح التصاريح، حيث كانت لسنوات طويلة تستخدمها باعتبارها آلية ضبط ومكافأة، حتى إن هذه الخطوة لم تكن تتم رسمياً في بعض الأحيان، إذا قامت خلال السنوات الماضية بفتح ممرات "تهريب" من السياج الحدودي في الضفة الغربية، يدخل من خلاله الفلسطينيون للعمل داخل إسرائيل، وهي عملية تظهر شهادات الفلسطينيين أنها كانت تتم بمراقبة من قبل جنود في جيش الاحتلال الإسرائيلي، إذ كان الجنود يشاهدون العمال الفلسطينيين الذين يدخلون عبر "فتحات" في السياج دون اعتراضهم، وهي سياسة أوضحت تقارير إسرائيلية مختلفة حينها أنها تهدف إلى تحسين شروط المعيشة بالنسبة إلى الفلسطينيين، لمنع انفجار الضفة الغربية، لكنها توقفت عندما نفذ فلسطيني عملية داخل إسرائيل بعد أن دخل عبر تلك "الفتحات".
الاستشراق في المنظومة الأمنية
تظهر كل تلك التحولات أن المؤسسة الأمنية الإسرائيلية تستند في مقاربتها للفلسطينيين إلى منطق استشراقي يمثل الآخر (الفلسطينيين) بكونهم مجموعات متجانسة، تحاول إخضاع سلوكها لقواعد جاهزة، يمكن فهمها بمعادلة أمنية بسيطة، سواء كانت تتعلق بوضع اقتصادي متردٍّ، أو بخلفية عائلية وطنية، أو باستقرار اجتماعي ما، لكن الأهم أن كل تلك المقولات تتعامل مع المجتمع الفلسطيني بوصفه وحدة واحدة يمكن فهمه من خلال نظرية معدة مسبقاً، متجاهلاً الاختلافات والتنوع الكبير داخل المجتمع الفلسطيني، وكذا متجاهلةً الدوافع المختلفة للفلسطينيين في مقاومة الاحتلال.
إن هذه المقاربة السابقة تجاه المجتمع الفلسطيني ما هي إلا امتداد لمنظور استشراقي سابق، يرى في الفلسطينيين "آخر" تحكمه دوافع ورغبات دينية واقتصادية، غير مستقل ذاتياً، وخاضع لشروط المجتمع والدين بشكل صارم، دون الاعتراف بالتعددية السياسية والاجتماعية التي تحكم المجتمع الفلسطيني. وهو ما يعني تجاهل التعقيدات السياسية والانتماءات الوطنية التي تشكل عمق العلاقة بين الفلسطينيين ومنظومة الاحتلال، وكذا تجاهل مسائل أساسية ونزعات إنسانية سائدة، على غرار التوق الدائم إلى الحرية والعدالة.