اللجنة الاستشارية تتبرأ من دستور قيس سعيّد: نسخة مشوهة

اللجنة الاستشارية تتبرأ من دستور قيس سعيّد: نسخة مشوهة

04 يوليو 2022
حذّر بلعيد من أن مشروع الدستور يمهد لنظام ديكتاتوري مشين (Getty)
+ الخط -

فجّر الصادق بلعيد، رئيس اللجنة الاستشارية التي تولت كتابة مشروع الدستور الجديد لتونس بطلب من الرئيس قيس سعيّد، أمس الأحد، مفاجأة، بإعلانه التبرؤ من مسودة الدستور التي نشرت تمهيداً للاستفتاء عليها في 25 يوليو/تموز الحالي، كاشفاً أن سعيّد أدخل تغييرات جوهرية على النسخة المقدمة إليه من اللجنة. وتكمن المفاجأة ليس فقط بتبرؤ بلعيد من مسودة الدستور، بل لأنه كان ينظر إليه خصوصاً على أنه من بين أكثر المقربين للرئيس التونسي.

ورغم أن "اللجنة الاستشارية من أجل بناء الجمهورية الجديدة" أنيطت بدور استشاري غير ملزم، وكان أعضاؤها يدركون أن الرئيس في النهاية هو صاحب القرار النهائي، إلا أن الصدمة كانت واضحة في تصريحاتهم بعد استبدال شبه كامل لمقترحهم، ونشر دستور جديد مختلف بصياغة لا يرقى شكّ إلى أنها من سعيّد نفسه.

محفوظ: الأخطاء لا تمكن مراجعتها إلا بعد الاستفتاء

وبحسب تصريحات بلعيد وعدد آخر من الأعضاء، تمتد الفروق بين النسختين لتشمل نقاطاً جوهرية عديدة، بما يؤكد أن سعيّد وضع الجميع أمام أمر واقع فارضاً ما يريده فقط. وراوغ سعيّد الجميع، حتى الذين كانوا يتصورون أنهم قريبون من أفكاره، بما في ذلك أعضاء اللجنة الاستشارية الذين ضرب بمسودتهم عرض الحائط، ليظهر أنه استخدمهم كمجرد واجهة تضفي مشروعية حوار شكلي على دستور هو أصلاً في أحد أدراج مكتبه.

الصادق بلعيد يتبرأ من مسودة دستور سعيّد

وأكد رئيس اللجنة الصادق بلعيد، في رسالة نشرتها جريدة "الصباح" التونسية أمس، أن "نص مشروع الدستور الجديد الصادر في الرائد الرسمي (الجريدة الرسمية) والمعروض للاستفتاء، لا يمت بصلة إلى نص الدستور الذي أعدته اللجنة، وتم تقديمه لرئيس الجمهورية" في 20 يونيو/حزيران الماضي.

وأضاف بلعيد أن "الهيئة الوطنية المكلفة بصياغة مشروع الدستور بريئة تماماً من المشروع الذي طرحه رئيس الجمهورية للاستفتاء الوطني، باعتباره ينطوي على مخاطر ومطبات جسيمة، منها بالخصوص طمر وتشويه الهوية التونسية ورجوع مريب إلى الفصل 80 من دستور 2014 حول "الخطر الداهم"، والذي يضمن من خلاله رئيس الدولة صلاحيات واسعة في ظروف يقررها بمفرده، ما من شأنه التمهيد لنظام ديكتاتوري مشين".

وأشار بلعيد إلى أنه "تمّ انتفاء المسؤولية السياسية لرئيس الجمهورية في الدستور المعروض، وهناك تنظيم منقوص وجائر للمحكمة الدستورية كحصر أعضائها في سلك القضاة من خلال نظام تعيين يقض من استقلاليتها، وكذلك غياب البعد الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والبيئي من المشروع المطروح رسمياً".

من جهته، أكد أستاذ القانون الدستوري وعضو "اللجنة الاستشارية من أجل جمهورية جديدة"، أمين محفوظ، أنه "صُدم من نسخة مشروع الدستور التي تم إصدارها في الرائد الرسمي" في 30 يونيو الماضي. وقال محفوظ، في حديث إذاعي، أمس، إنه "صُدِم رفقة العميد الصادق بلعيد ومحمد صالح بن عيسى (أستاذ القانون الدستوري، عضو في الهيئة)، من النسخة المعروضة"، مؤكداً أن "من يعرفه ويعرف بلعيد وبن عيسى، يعلم أنهم لا يمكن أن يكونوا وراء النص المنشور".

وذكر محفوظ أن "الأخطاء اللغوية وتكرار أبواب عدة يمس من هيبة الدولة"، وكشف أن هذه الأخطاء "لا يمكن أن تُراجع أو أن يتم إصلاحها إلا بتعديل الدستور بعد 25 يوليو". وقال محفوظ إن "هذه النسخة لا يمكن أن يكون إلا رئيس الدولة من كتبها"، مضيفاً أن "النسخة خطيرة ولا تؤسس لنظام ديمقراطي، وهي رفعت وألغت كل رقابة على رئيس الجمهورية". ونبّه محفوظ من "الاستغناء عن كل الضمانات في مشروع الدستور"، محذراً رئيس الدولة "من تولي ما وصفه بهتلر تونسي للرئاسة من بعده".

من جهته، أكد عميد المحامين التونسيين، ورئيس اللجنة الاستشارية للشؤون الاقتصادية والاجتماعية، إبراهيم بودربالة، أن "الدستور المنشور ليس المشروع الذي سُلّم للرئيس، وأن هناك اختلافات مهمة، أبرزها تركيبة المحكمة الدستورية".

وكانت عضو اللجنة الاستشارية، النائب السابقة فاطمة المسدي، قد كشفت في حديث إذاعي، الجمعة الماضي، أنهم "تفاجأوا بغياب الباب الاقتصادي في مشروع الدستور رغم الاتفاق حوله، وأنهم تفاجأوا من التنصيص على بعث مجالس الجهات والأقاليم، على الرغم من أنه لم يجرِ التداول حولها"، داعية سعيّد "للخروج وتوضيح بعض الغموض بخصوص عدد من الفصول".

نقاط الاختلاف بين مسودتين للدستور

وبرزت نقاط اختلاف كثيرة بين مشروع دستور سعيّد المعروض رسمياً على الاستفتاء، ومسودة بلعيد في مختلف أبواب الدستور. وحذف سعيّد كلياً الباب الأول من المسودة، وهو باب أسس السياسة التنموية. كما شطب فصلاً مهماً في المسودة الأولى من باب المبادئ السياسية، هو الفصل العاشر الذي ينص على أن "تونس جمهورية ديمقراطية اجتماعية تقوم على المواطنة وإرادة الشعب وحماية الحقوق والحريات والتضامن وعلى علوية الدستور".

وفي باب الوظيفة التشريعية، يشير مشروع بلعيد إلى أن مجلس النواب يتم انتخابه بشكل مباشر من الشعب ويكون "عاماً، حراً، مباشراً، وسرياً"، مثل طريقة انتخاب رئيس الجمهورية، في مقابل تنصيص مشروع سعيّد على تفويض "الشعب صاحب السيادة" الوظيفة التشريعية لمجلس نيابي أول يسّمى مجلس نواب الشعب، ولا يشير إلى انتخابه مباشرة من الشعب، ولمجلس نيابي ثان يسمى المجلس الوطني للجهات والأقاليم يتم انتخابه من الجهات.

وتعرضت مسودة دستور بلعيد إلى إمكانية إسقاط الحكومة من قبل مجلس النواب عبر لائحة لوم تستوجب إمضاء ثلث أعضاء مجلس النواب لتقديمها، والأغلبية المطلقة لأعضاء مجلس النواب للمصادقة عليها، فيما ترتفع الأغلبيات المطلوبة في مشروع سعيّد إلى نصف أعضاء مجلس نواب الشعب ونصف أعضاء المجلس الوطني للجهات والأقاليم لقبول عرضها، وأغلبية الثلثين لأعضاء المجلسين مجتمعين للمصادقة عليها.

لا يتيح دستور سعيّد عزل رئيس الجمهورية بأي شكل

ولا تذكر مسودة بلعيد مسألة سحب الوكالة من النائب في البرلمان، كما لا تحد من الحصانة الممنوحة إليه مقارنة بالدساتير السابقة، فيما ينصّ مشروع دستور سعيّد على إمكانية سحب الوكالة من النائب، وترفع عنه الحصانة البرلمانية "بالنسبة إلى جرائم القذف والثلب وتبادل العنف المرتكبة داخل المجلس، كما لا يتمتع بها أيضاً في صورة تعطيله للسير العادي لأعمال المجلس".

وفي حالة الشغور الدائم لمنصب رئيس الجمهورية، تُحال الصلاحيات إلى رئيس مجلس النواب بحسب مسودة بلعيد، في حين اختار مشروع سعيّد أن تحال إلى رئيس المحكمة الدستورية. كما مكّنت مسودة بلعيد أغلبية النواب من تقديم لائحة معللة لإعفاء رئيس الجمهورية من أجل الخرق الجسيم للدستور، ثم يُصادق عليها بأغلبية الثلثين وتعرض على المحكمة الدستورية للحسم، لكن دستور سعيّد لا يمكن بأي شكل من الأشكال من عزل رئيس الجمهورية.

وبالنسبة للمحكمة الدستورية في مسودة بلعيد، فإنها تتركب من أساتذة قانون وقضاة سامين ومحامين لدى التعقيب يتم تعيينهم بالتساوي بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس المجلس الأعلى للقضاء، على عكس التركيبة التي تنحصر في القضاة في مشروع دستور سعيّد بحسب الأقدمية في وظائفهم.

وتفرض مسودة بلعيد رقابة من الجلسة العامة للمحكمة الإدارية على دستورية المراسيم التي يواصل رئيس الجمهورية إصدارها خلال المرحلة الانتقالية وحتى شروع مجلس النواب المنتخب في ممارسة اختصاصاته، في حين ينص مشروع سعيّد على أن "يستمّر العمل في المجال التشريعي بأحكام الأمر الرئاسي عدد 117 لسنة 2021 المؤرخ في 22 سبتمبر/أيلول 2021 المتعلق بتدابير استثنائية إلى حين توليّ مجلس نواب الشعب وظائفه بعد تنظيم انتخابات أعضائه"، ما يعني عدم إمكانية الطعن في المراسيم الرئاسية.

وتنص مسودة دستور بلعيد في باب الأحكام الختامية بدقة ووضوح على نشر "الموافقة على هذا الدستور على إثر إعلان الهيئة العليا المستقلة للانتخابات بأن نتائج الاستفتاء أفضت إلى موافقة الشعب بأغلبية الأصوات المصرح بها"، في حين اختار سعيّد صياغة مختلفة لإعلان دخول الدستور حيز التنفيذ: "يدخل الدستور حيز التطبيق ابتداء من تاريخ الإعلان النهائي عن نتيجة الاستفتاء من قبل الهيئة العليا المستقلة للانتخابات".

وفي السياق، علّق عضو تنفيذية "مواطنون ضد الانقلاب"، أحمد الغيلوفي، لـ"العربي الجديد"، على التطورات، مشيراً إلى أنه "قلنا منذ البداية إننا لن نخوض في مضمون هذا الدستور والمسار لأننا نعتبر ما حدث انقلاباً، ونتائج ذلك معلومة منذ البداية، فكنا نرى ذلك من بعيد، خصوصاً لو انتصر (سعيّد) في هذا الاستفتاء، ونحن نتوقع أن يقوم بالتزوير لأنه في طريق مسدود وليس أمامه سوى الذهاب نحو الحائط".

وقال الغيلوفي إن "الطامة الكبرى تكمن في القانون الانتخابي الذي سيفصّله" الرئيس قيس سعيّد "على مقاسه ومقاس مشروعه". وأضاف أن "مشروع سعيّد يقوم على مراحل لصعود تنسيقياته محلياً وجهوياً ومركزياً، وليس في انتخاب بشكل مباشر"، لافتاً إلى أنه "بين النائب والقاعدة الشعبية في دستور سعيّد 3 مراحل، ما سيضعف مجلس النواب أمام تغول الرئيس في الدستور، بما يجعله مجلس مريدين، كما في زمن البايات قديماً (ملوك تونس قبل الاستقلال)، وأقصى ما يقدمونه هو نصائح سلطانية".

ورأى "أننا ذاهبون نحو أسوأ نظام سياسي يمكن أن يتصوره الناس في أفريقيا كلها". ودعا الطبقة السياسية إلى أن "تنسحب تماماً، لأن الناس تساند المنقلب ليس رغبة فيه بل نكاية في الطبقة السياسية التي انشغلت بصراعاتها الداخلية، فدمرت نفسها والبلاد".

وردّ شقيق الرئيس التونسي، أستاذ القانون نوفل سعيّد، على جدل مسودة الدستور. وقال إنّ أعضاء الهيئة كانوا على علم تام بطبيعة أعمالها، التي هي استشارية، وبأنّ رئيس الجمهورية وحده هو الذي يملك القول الفصل. وأضاف: "من حق بعض أعضاء الهيئة قبول أو رفض المشروع الذي احتفظ به الرئيس، وموقعهم لا يضفي على رفضهم أو قبولهم أي مكانة أو وزن خاص". وختم: "موعدنا في 25 يوليو... حين سيحسم الأمر الشعب صاحب السيادة".

المساهمون