القاهرة وواشنطن: نقطة انطلاق جديدة لسدّ النهضة

القاهرة وواشنطن: نقطة انطلاق جديدة لسدّ النهضة

23 مايو 2021
قلّلت مصر من خطورة الملء الثاني للسدّ (إدواردو سوتيراس/فرانس برس)
+ الخط -

فتحت الأحداث والتطورات التي شهدتها فلسطين المحتلة أخيراً، صفحة جديدة بين القاهرة وإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن، بعدما ظلّ متعذراً فتحها منذ وصول الأخير إلى البيت الأبيض وتسلّمه مهامه رسمياً في يناير/كانون الثاني الماضي، إضافة إلى مساعديه الذين لم يكونوا يقلّون عنه تحفظاً لناحية التعامل مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي. وبقيت القطيعة عنوان العلاقة بين القاهرة وواشنطن طوال الشهور الأربعة الماضية، حتى أتاحت أزمة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة المحاصر، والتداخل المصري فيها، وشروط المقاومة الفلسطينية لحدود دور الوساطة، المجال أمام تواصل جاد ومنتج بين الطرفين للمرة الأولى. وتنشغل القاهرة حالياً بإمكانية البناء على هذا التواصل، خصوصاً أنّه حقّق ما عجزت عن فعله ملايين الدولارات التي أنفقتها الدولة المصرية على أساليب الدعاية و"التربيطات" السياسية المختلفة، والحشد الإعلامي في واشنطن.

ويزور وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، بعد أيام قليلة، القاهرة، في إطار جولة في الشرق الأوسط، تهدف علناً إلى تثبيت وقف إطلاق النار بين الاحتلال الإسرائيلي وفصائل المقاومة الفلسطينية، لكنّ اجتماعاته في العاصمة المصرية تحديداً ستكون لها أهداف أخرى. ومن أهم هذه الأهداف، بحسب مصادر دبلوماسية مصرية تحدثت لـ"العربي الجديد"، العمل على تطوير المحادثات بين الجانبين في القضايا محلّ الاهتمام المشترك، وعلى رأسها الدور الأميركي المتعثر في قضية سدّ النهضة، والمشاكل العالقة بين القاهرة وواشنطن وأدت إلى تعليق التعاون طوال الفترة الماضية، وعلى رأسها سجل النظام المصري في مجال حقوق الإنسان السياسية والشخصية، وأوضاع المعتقلين، والحريات العامة، واقتصاد الجيش.

يزور بلينكن القاهرة لبحث الملفات العالقة بين البلدين

ووصفت المصادر الاتصال الذي جرى، الخميس الماضي، بين بايدن والسيسي، وتعليق الاثنين عليه، بأنّه "أكبر إنجاز حققته مصر خلال الأسابيع الماضية"، خصوصاً أنّه لا يتماشى إطلاقاً مع الانطباع الذي خلفته زيارة المبعوث الأميركي للقرن الأفريقي، جيفري فيلتمان، للقاهرة، منذ أسبوعين. وكان من الواضح، بالنسبة للقاهرة، إثر زيارة فيلتمان، أنّ واشنطن ليس لديها الاستعداد لإعطاء تأييدها الواضح لأيّ طرف في قضية سدّ النهضة، وأنّها تميل إلى تطبيق مقترحات مؤقتة لا تلبي أهداف مصر على المدى البعيد، وتتجه أكثر ما يكون إلى ضمان عدم تفاقم الأزمة ومنع تحول مسار الحل من التفاوضي إلى العسكري.

وذكرت المصادر أنّ مصر تركز في المرحلة الحالية على استغلال ما تحقق في أزمة غزة، سواء أكان عودتها لممارسة دور إقليمي واضح في موضوع مستقل حركياً وسياسياً عن الهيمنة الإماراتية والسعودية، أو لجهة التقارب مع الإدارة الأميركية وفتح لقنوات اتصال على مستويات أعلى مما كان معتاداً منذ فوز بايدن بالرئاسة في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي. وبحسب المصادر، فإنّ القاهرة تسعى إلى استخدام ذلك في قضية السدّ، تحديداً على ثلاثة مستويات أساسية: أولها انتزاع اعتراف صريح من الإدارة الأميركية بحق مصر في التوصل إلى اتفاق شامل وملزم كما كان موقف إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، والثاني تصعيد الضغط على إثيوبيا بصورة فعّالة لتوقيع الاتفاق والسير في المفاوضات مجدداً، والمستوى الثالث عدم قصر التركيز الأميركي في الضغط على قضية قومية تيغراي التي ما زالت محل الاهتمام الأكبر داخل إدارة بايدن وترتبط بها العقوبات والوعود المختلفة، وتوسعة الضغط ليشمل أيضاً النزاع الحدودي بين إثيوبيا والسودان لحلّه نهائياً.

ولا يمكن الفصل بين هذه المستويات المأمولة، وبين تطورات الموقف المصري من قضية سدّ النهضة خلال الأيام الأربعة الماضية. وبدأ ذلك مع محاولة احتواء آثار التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية سامح شكري، عن عدم تأثر المصالح المائية المصرية من الملء الثاني للسدّ، والذي فسّرته مصادر مصرية، في وقت سابق، بأنّه استجابة لضغوط أميركية وإماراتية للتهدئة، شملت أيضاً القيادة السودانية التي تعمدت، في الوقت ذاته، توجيه رسائل تستبعد الحرب، وصولاً إلى الإعلان عن انطلاق مناورات "حماة النيل" العسكرية، متنوعة الأسلحة، بين مصر والسودان، بعد ثلاثة أيام. ويحمل الاسم الجديد للمناورات، بدلاً من "نسور النيل" رسالة تلويح جديدة ضد إثيوبيا، كما يحمل الترويج المصري، لاتساع مجالها ليشمل القوات البرّية، مؤشرات على العودة إلى سيناريو الترويج لإمكانية الدفاع المشترك عن حدود السودان، بالتزامن مع تردد أنباء عن حشد عسكري إثيوبي.

تريد مصر توسعة الضغط ليشمل النزاع الحدودي بين إثيوبيا والسودان لحلّه نهائياً

ولما تمثله قضية سدّ النهضة من ضرورة عاجلة لمصر، تبدو فرص الرهان على الموقف الأميركي وحده غير كافية، حتى إذا ترسخ إيمان الجميع في القاهرة والخرطوم وأديس أبابا، بأنّ واشنطن وحدها التي تستطيع إحداث الفارق في هذا الملف، في ظلّ ضعف التأثير الأوروبي، والحياد السلبي الصيني والروسي، والمواقف الضعيفة التي تصل إلى حدّ التخاذل وإعانة إثيوبيا من القوى الإقليمية، كالإمارات ودولة الاحتلال الإسرائيلي. ويعود سبب ذلك إلى أنّ العلاقات بين الحكومة الإثيوبية وإدارة بايدن تمرّ بمرحلة حرجة، ربما أسوأ مما كانت عليه العلاقات بمصر قبل اتصال بايدن بالسيسي. فوفقاً لمصدر حكومي إثيوبي، فإنّ زيارة فيلتمان لأديس أبابا، واتصالات الوساطة التي قام بها الرئيسان الإريتري أسياس أفورقي والرواندي بول كاجامي "قد فشلت في تحقيق أيّ مرونة إزاء ملف تيغراي، فضلاً عن أنّ أديس أبابا تعتبر التقرير السري لفيلتمان، والذي لم تعلن تفاصيله كاملة حتى الآن، غير محايد، وربما يؤدي إلى عدم الترحيب به مجدداً في إثيوبيا".

وإلى جانب مسألة تيغراي، فإنّ امتداد الرهان المصري على واشنطن منذ عهد ترامب، لا يضمنه شيء، لأنّ الولايات المتحدة من أقل الدول مساعدة لإثيوبيا في مشروع السدّ وغيره وأقلّها تأثيراً عليها أيضاً. أما الدول الأكثر مساعدة لأديس أبابا اليوم واستفادة من السدّ مستقبلاً، مثل الصين وفرنسا وإيطاليا وألمانيا، فما زالت مقتنعة إلى حدّ كبير بالمصفوفات الإثيوبية التي تزعم عدم إيقاع أيّ أضرار بمصر في أيّ مرحلة من ملء وتشغيل السدّ. ويأتي ذلك على النقيض تماماً من المصفوفات والتقارير الفنية المصرية، التي لا تتحدث فقط عن خروج آلاف الأفدنة من الرقعة الزراعية على مراحل، ربما تبدأ في العام المقبل، لكن أيضاً بسبب المصاريف المالية الضخمة التي يتحتم على مصر أن تنفقها في المستقبل البعيد لتحسين الظروف البيئية للمياه وتحسين جودتها وجعلها صالحة للشرب، بالنظر للتوسع الكبير الذي سيطرأ على استخدام المياه للأغراض الزراعية والصناعية والتنموية في كلّ من إثيوبيا والسودان.

وقبل كلّ هذه الاعتبارات، سيكون لسد النهضة، حال تشغيله بمعزل عن الإرادة أو حتى المراقبة المصرية، تأثير خطير على الموقف الاستراتيجي لمصر، بوضعها تحت رحمة إثيوبيا، وهو ما عبّر عنه مراراً جميع المراقبين، وحتى المسؤولين الحكوميين المصريين، خصوصاً أنّ التقديرات المصرية والسودانية تتفق على أنّه لا يمكن قبول الرواية الإثيوبية الدائمة بأنّ سدّ النهضة يهدف في الأساس إلى توليد الكهرباء وحسب، بل إنّ ضخامة هذا السد لن تسمح له فقط بالإسهام في تحقيق نهضة غير مسبوقة للزراعة في إثيوبيا على مدار تاريخها، بل سيسمح لها بممارسة ضغوط استراتيجية على السودان ومصر سيصعب التعامل معها مستقبلاً. وقد تكون تلك الضغوط منفذاً لممارسة قوى أخرى لمثلها من خلال أديس أبابا، وكذلك الإسهام في تحويل إثيوبيا إلى مركز الثقل السياسي الرئيسي في منطقة شرق أفريقيا، فضلاً عن زيادة منافستها لمصر على اجتذاب المشروعات التنموية الاستثمارية.

وكان وزير الخارجية المصري سامح شكري قد واصل، أول من أمس الجمعة، تصريحاته المتضاربة حول قضية السدّ. ووصف شكري، في مداخلة هاتفية مع الإعلامي عمرو أديب، الملء الثاني للسدّ بأنّه "تنصّل إثيوبي من إعلان المبادئ المبرم بين مصر والسودان وإثيوبيا عام 2015". مضيفاً في الوقت ذاته أنّ "هناك ضرراً يمكن تحمّله لتحقيق التنمية لأشقائنا الإثيوبيين، وهناك ضرر لا يمكننا تحمّله".

المساهمون