الشارع السوري يواكب الحدث

11 ديسمبر 2024
سوريون يحتفلون بسقوط النظام بدمشق، 9 ديسمبر 2024 (مراد سنغول/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- مشاعر السوريين وتوقعات التغيير: شهد السوريون لحظات تاريخية مع أنباء هروب بشار الأسد، مما أعاد مشاعر الثورة الأولى في 2011، وظهرت مظاهر الفرح في المناطق المحررة رغم المخاوف من استخدام النظام للأسلحة الفتاكة.

- التحديات والمخاوف المحيطة بالعمليات العسكرية: رغم الفرح، كانت هناك مخاوف من الفصائل المسلحة في المدن الكبرى، لكن الانضباط ساهم في تهدئة المخاوف، وشهدت حلب استقرارًا بفضل جهود القيادة العسكرية.

- الدور التركي والتغيرات السياسية: لعبت تركيا دورًا كبيرًا في دعم العمليات ضد النظام السوري، مما عزز عزيمة الفصائل وتقدمها في مناطق استراتيجية، رغم تهديدات إيران وحزب الله.

عاش السوريون في الداخل والخارج خلال الأيام الأخيرة مشاعر ومواقف لا مثيل لها، غير تلك الحالة التي أعقبت كسر جدار الخوف مع بداية الثورة على النظام في مارس/ آذار 2011. ومن المؤكد أن الغالبية العظمى من الشارع السوري أمضت قدراً من الوقت في المتابعة على شاشات التلفزة ووسائل التواصل الاجتماعي، لم يسبق لها أن كرسته لقضية أخرى منذ أكثر من عشرة أعوام. ولعل ليلة السابع من الشهر الحالي كانت الأطول في حياة السوريين منذ ما يزيد عن نصف قرن، لأن العديد من المؤشرات كانت توحي بأنها ستكون حاسمة لجهة تقرير مصير النظام، بعدما بدأت عملية تطويق العاصمة، وتسربت أنباء عن هروب رئيس النظام بشار الأسد.
وعكست الساحات العامة ومواقع التواصل الاجتماعي، ونقلت بعض وسائل الإعلام، مظاهر الفرح السوري في المحافظات التي تحررت من النظام. وكانت البداية من حلب التي تعد مركز التوازن الثاني بعد دمشق في بناء الكيان السوري منذ الاستقلال. لكن هروب الأسد أعطى لدمشق الصدارة، ولم يمنع الناس أنفسهم من النزول للساحات للتعبير عن شوقهم الطويل للحرية، رغم الأخبار السيئة عن قصف إسرائيلي داخل العاصمة، وحصول بعض أعمال التخريب والنهب من قبل شبيحة النظام السابق، الذين حاولوا تعكير الجو الاحتفالي وخلق حالة من الاضطرابات.


ينتظر الشارع السوري إسقاط النظام بكافة أركانه ورموزه مع الإبقاء على مؤسسات الدولة

مشهد الشارع السوري هو الذي سيبقى في الأذهان باعتباره تعبيراً عن الاحتفال العفوي باللحظة التي كان ينتظرها طويلاً كل من لا يقف في صف النظام السوري. وقد واكبت تلك الحالة سلسلة من التظاهرات داخل سورية وخارجها، بالإضافة إلى ما حفلت به صفحات وسائل التواصل الاجتماعي. ما وجّه ردود الفعل وطغى عليها هو التأييد غير المشروط، وحالة الفرح التي قفزت منذ اليوم الأول للعملية إلى حدها الأقصى في أوساط الشارع السوري، بينما عاشت فئات أخرى مشاعر مختلطة من الحذر، بعضها قائم على حسابات ومخاوف من حصول انتكاسة تنتج عن لجوء النظام إلى استخدام الأسلحة الفتاكة، التي سبق له أن جربها خلال أعوام الثورة، بما فيها السلاح الكيميائي، والبعض الآخر ناجم عن مخاوف من الفصائل التي دخلت المدن الكبرى، خصوصاً دمشق وحلب.

الفرح يكبح مخاوف الشارع السوري

لعبت حالة الفرح في الشارع السوري دوراً مهماً في كبح المخاوف التي عبّرت عنها بعض الفئات للأطراف التي شاركت في العملية، سواء هيئة تحرير الشام التي لم تكن تجربتها في إدلب مثالية، أو "الجيش الوطني"، الذي ينتشر في مناطق ريف حلب وتل أبيض ورأس العين، وهو صاحب تجربة حافلة بالتجاوزات والمعارك الجانبية من أجل النفوذ والمكاسب والتطاول على المدنيين. وقد خفف حدة المخاوف في الشارع السوري أن الغالبية العظمى من المقاتلين الذين شاركوا في العمليات هم من أبناء المناطق التي استعادوها من تحت سيطرة النظام.

ونقلت بعض وسائل الإعلام مشاهد معبّرة من الشارع السوري عن اللقاء بين العديد من المقاتلين وأهلهم، الذين ظلوا في حلب بعد عملية التهجير القسري الكبيرة منها عام 2016، التي نفذتها روسيا وإيران. وتبيّن أن بعض المقاتلين لم يكن يتجاوز 16 عاماً في حينه، كما أن بعض البيوت كانت محتلة من قبل أنصار النظام، الذين فروا لدى دخول المقاتلين إلى المدينة. وقد ساعد على تعميم هذا التوجه والروحية الانضباط الذي تحلى به المقاتلون عند دخول المدن، بالإضافة إلى حالة الاستقرار التي عرفتها حلب سريعاً، وبذل قيادة "العمليات العسكرية" جهداً واضحاً في ضبط الوضع فيها، وفي الوقت ذاته ساعدت فرق الدفاع المدني في تخفيف وطأة المشاكل التي تعاني منها حلب بسبب الإهمال على مستوى الخدمات، وخصوصاً الكهرباء، التي تمكنت الإدارة الجديدة للمدينة من إصلاح بعض أعطالها، وباتت متوافرة في أغلب الأحياء، وعلى نحو تدريجي.

هناك عدة قواسم مشتركة بين آراء ومواقف السوريين تجاه العمليات، وبقدر أقل تباينات وتعارضات حادة. لكنها في كافة الأحوال عبارة عن تلاقٍ وتباعد حول مسألة رحيل نظام الأسد، وهو في المجمل عبارة عن تصورات وحسابات ومخاوف تتمحور حول اليوم التالي، الذي لا يزال يحمل صفة المجهول، وسط تداول سيناريوهات مختلفة، يعد أسوأها مشاركة النظام القديم في قيادة المرحلة الانتقالية، وهو ما يروج له مندوب الأمم المتحدة إلى سورية غير بيدرسون، من خلال إصراره على إحياء القرار 2254، رغم أن الأحداث تجاوزته. وما ينتظره الشارع السوري هو إسقاط النظام بكافة أركانه ورموزه مع الإبقاء على مؤسسات الدولة، بما في ذلك ضباط الجيش الذين لم تتلون أيديهم بالدماء. أهم ما ميز ردود الفعل هو انتقالها من الصدمة الإيجابية أو السلبية إلى الاستيعاب التدريجي، ومن النقاش الحاد العاطفي والعفوي إلى التروي والهدوء والتزام جانب العقلانية، وتقصي الوضع بدقة من أجل وضع الأمور في نصابها.

وكما أصابت الصدمة النظام وجمهوره وحلفاءه، فإنها وقعت بالقدر ذاته على الشارع السوري الذي يناصر المعارضة، أو يدور في فلكها وحتى المعارضين لها. لم يكن أحد يصدق أن الفصائل سوف تقوم بعملية عسكرية كبيرة، تقود إلى تغيير موازين القوى. أعلى سقف التوقعات كان يرى أنه قد تحصل عملية تحريك، تمليها التحرشات العسكرية التي يقوم بها النظام، والقصف الذي يقوم به على المناطق، التي تسيطر عليها الفصائل المسلحة.

مرد الصدمة في الشارع السوري على وضع الفصائل يعود إلى أنها تحوّلت في نظره إلى مليشيات أمراء الحرب، بنت وضعها وتشكّلت مصالحها على أساس ما يخدمها أولاً، والسبب هو تصرفاتها السيئة خصوصاً تلك المنضوية تحت ما يسمى "الجيش الوطني" التي تنتشر في المناطق المعروفة باسم "درع الفرات"، والدليل على ذلك الحروب والمواجهات التي عاشتها خلال العامين الأخيرين في ما بينها، والتي لم تكن توحي بأنها ذات هم سياسي أو تبشر بأنها قادرة على النهوض بعملية عسكرية واسعة تواجه النظام وحلفاءه من الروس والإيرانيين.

استيعاب دروس الماضي

القاسم المشترك الثاني هو استيعاب دروس الأعوام الماضية، سواء تلك التي قدّمتها أعوام الثورة، وما رافقها من صعود سريع وهبوط وانقسامات وحروب وتهجير وكوارث، وما تلاها من هدوء نسبي بعد توقف المعارك الكبرى في العام 2020 واستقرار الوضع على ما هو عليه حتى بدء العملية العسكرية في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، والتي قلبت الوضع السوري، وخلقت حالة سورية جديدة يتفاعل معها السوريون من مواقعهم وعلى اختلاف محافظاتهم وطبيعة علاقتهم مع التطورات السياسية.

على العموم، هناك مروحة متنوعة من المواقف، ومستويات متعددة، تجاه العمليات العسكرية. المستوى الرئيسي هو أنه لا أحد يقف مع الأسد سوى شركاؤه في قتل السوريين وتخريب ونهب سورية. هناك مواقف سورية متنوعة متحفظة ونقدية تجاه تركيبة الفصائل المسلحة، تترافق مع تخوفات مشروعة من المستقبل، كون التجارب العربية الشبيهة كلها مخيبة للآمال، مثل السودان وليبيا، لكن لا أحد من الأغلبية السورية يتمسك به أو يتأسف على رحيله، وهذا ظهر بصورة جلية من ردود فعل في مناطق الساحل، في محافظتي طرطوس واللاذقية.


تصريح أردوغان حول أن هدف العملية هو الوصول إلى دمشق شد من عزيمة الفصائل

ثمة مسألة أساسية يقف عندها النقاش السوري مطولاً، تتعلق بمتغيرات أساسية ساعدت على إحداث هذا التغير المفاجئ، ولكن العامل التركي هو الأساسي، ولولا وجود ضوء أخضر من أنقرة بإطلاق عملية عسكرية لما تجرأت الفصائل على ذلك، وهنا يمكن إيراد عدة أسباب. الأول، هو أن الفصائل ليست على رأي واحد، بين "الجيش الوطني" نفسه، وبينه وبين هيئة تحرير الشام. والثاني هو أن العملية تحتاج إلى متطلبات لوجستية مهمة، وهذا ما وفرته أنقرة. والثالث هو أن العملية تحتاج إلى تغطية سياسية أو طرف إقليمي قوي تستند إليه. ومن الواضح أن تركيا، التي بقيت تصريحاتها غامضة إلى حد ما على صعيد تبني العملية والدفاع عنها حتى اليوم العاشر عندما تحدث الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي أوضح صراحة أن هدف العملية هو الوصول إلى دمشق، أي إسقاط النظام السوري، وشد عزيمة الفصائل، وأعطاها دفعة قوياً بعد أن كانت قبل يوم من ذلك قد استعادت مدينة حماة، واتجهت نحو مدينة حمص لتخوض معركة حاسمة بالنظر لأهمية المدينة صاحبة أكبر مساحة (40 ألف كيلومتر مربع)، وتمتاز بأنها تقع في وسط سورية، وعلى الحدود مع كل من لبنان والعراق والأردن، وتربط دمشق بالساحل السوري، الذي يشكل منطقة على حساسية عالية تجاه ما يحصل، وكانت تضم أكبر تجمّع عسكري للنظام.

ولم يأتِ التوجه نحوها لسببين أساسيين، الأول هو تهديد إيران بأن ترسل قوات لمساندة النظام، على الرغم من صعوبة ذلك من الناحية العملية، لأن طيرانها ممنوع من الهبوط في المطارات السورية. والأمر الثاني يتعلق بمشاركة حزب الله بقوته الكبيرة الموجودة في معقله الرئيسي في مدينة القصير الواقعة على الحدود مع لبنان. وهنا جرى التوقف عند ملاحظتين، الأولى هي أن الحزب سحب عدداً كبيراً من قواته إلى لبنان خلال الأشهر الأخيرة، والثانية هي أن وقف النار في لبنان لا يزال قيد الاختبار وإسرائيل باقية في الجنوب، ما يبقي الحزب في حالة استنفار ويعطي الأولوية للدفاع عن جنوب لبنان. معركة حمص كانت نقطة انعطاف مهمة. وحين لاحت علامات حسمها أصبح الطريق سالكاً إلى جنوب دمشق، بعدما تمكنت فصائل من الجيش الحر سابقاً، وجماعات أهلية في كل من درعا والسويداء، من السيطرة على مقرات النظام والمواقع والمرافق العسكرية.