السياسة الألمانية تجاه الاحتلال الإسرائيلي: الأسباب والتحديات
استمع إلى الملخص
- شهدت ألمانيا تظاهرات مؤيدة لفلسطين في أكتوبر 2023، لكن الحكومة فرضت قيوداً صارمة على الفعاليات التضامنية، مما أثار انتقادات لتقييد حرية التعبير ودعم الاحتلال الإسرائيلي.
- تسعى ألمانيا لتعزيز دورها الدولي، لكن موقفها من غزة محكوم بالسرديات التاريخية، مما يعكس التوترات بين المسؤولية التاريخية والضغوط الشعبية والأوروبية.
تظهر ألمانيا كدولة منفردة عن بقية دول الاتحاد الأوروبي في موقفها من معاقبة الاحتلال الإسرائيلي على انتهاكاته للقوانين الدولية، بما في ذلك ارتكاب جرائم حرب وإبادة، فضلاً عن استخدام التجويع كسلاح حربي ضد أكثر من مليوني فلسطيني في قطاع غزة. وعلى الرغم من أن برلين قد اتخذت في الآونة الأخيرة قراراً يمنع تصدير الذخائر "التي يمكن استخدامها في غزة" إلى الاحتلال الإسرائيلي، إلا أن هذا لا يعكس تحولاً جوهرياً في السياسة الألمانية تجاه القضية الفلسطينية أو الدعوات المتزايدة في أوروبا لفرض عقوبات على تل أبيب.
وفي مقابلة على هامش اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي في كوبنهاغن، قال وزير الخارجية الألماني، يوهان فادفول، في تصريح لهيئة البث الدنماركية "دي آر" اليوم السبت، إن "من غير المتوقع أن تكون ألمانيا أول من ينتقد إسرائيل، بل على الأرجح ستكون آخر من يفعل ذلك".
المسؤولية التاريخية وأثرها على السياسة الألمانية
يستند فادفول في موقفه الثابت تجاه إسرائيل إلى ما يُسمى بـ "المسؤولية التاريخية" التي تتحملها ألمانيا تجاه اليهود. ويوضح بالقول: "يجب أن نتذكر دائماً أننا، نحن الألمان، نتحمل مسؤولية خاصة تجاه دولة إسرائيل. لم ترتكب أي دولة أخرى جرائم ضد الشعب اليهودي مثلما فعلنا نحن الألمان".
وفيما يتعلق بالتساؤل حول ما إذا كانت الحكومة الإسرائيلية، بقيادة بنيامين نتنياهو، تأخذ الانتقادات الألمانية بعين الاعتبار، رد فادفول قائلاً: "نعم، إنهم يستمعون إلى الانتقادات. هناك تحسن في الوضع الإنساني، حيث تدخل حوالي 100 شاحنة مساعدات إلى غزة يومياً، لكن هذا بالطبع غير كافٍ".
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تحملت ألمانيا عبء هذه "المسؤولية التاريخية" تجاه إسرائيل، حيث تحولت دولة الاحتلال إلى جزء محوري من سياستها الخارجية والداخلية. ومن خلال هذه المسؤولية، تظل برلين واحدة من أبرز المدافعين عن إسرائيل في أوروبا، رغم الضغوط المتزايدة من دول الاتحاد الأوروبي الأخرى مثل السويد وهولندا وإسبانيا والنمسا، التي تدعو إلى فرض عقوبات على إسرائيل بسبب انتهاكاتها المتواصلة.
ومع ذلك، يصرّ فادفول على أن موقف بلاده لا يزال يعتمد على "الحوار" كأداة للضغط على الحكومة الإسرائيلية. وخلال المقابلة مع التلفزيون الدنماركي، أشار إلى أن "ألمانيا ستستمر في الضغط على إسرائيل من خلال الحوار" دون أن يذكر أي عقوبات مباشرة أو تعليق كامل لاتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل، وهي الاتفاقية التي يُعتقد أنها قد انتهكت بموجب الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان من قبل الاحتلال. ويعيد ما سماه "تحسن دخول المساعدات إلى غزة" إلى "الضغط بالحوار".
قمع التضامن باسم "معاداة السامية"
في بداية الحرب الإسرائيلية على غزة في أكتوبر/ تشرين الأول 2023، شهدت ألمانيا تظاهرات شعبية واسعة مؤيدة لفلسطين، حيث تزايد التضامن مع الشعب الفلسطيني في وجه العدوان الإسرائيلي. إلا أن الحكومة الألمانية ردت على هذه الموجة بحملة من القيود على الفعاليات التضامنية، تحت ذريعة "محاربة معاداة السامية".
تحت هذا الشعار، فرضت السلطات الألمانية قيوداً صارمة على المسيرات التي طالبت بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، حيث تم منع رفع العلم الفلسطيني في بعض المدن الألمانية. هذه الإجراءات أثارت انتقادات شديدة من قبل مؤيدي حقوق الإنسان، الذين اعتبروا أن هذه القيود تمثل تقييداً لحرية التعبير، خاصة أن رفع العلم الفلسطيني كان يُعتبر رمزاً للسلام والمطالبة بالعدالة للشعب الفلسطيني.
كما تم استهداف عدد من الناشطين والمنظمات غير الحكومية التي كانت تدعو إلى التضامن مع فلسطين، مما أثار شعوراً بأن هناك حملة قمعية ضد كل من يعارض سياسة الاحتلال. وظهرت تقارير تشير إلى أن السلطات الألمانية، وبتوجيهات سياسية، كانت تتدخل في تنظيم التظاهرات، متهمة المتظاهرين بتأييد "الإرهاب" أو التورط في "معاداة السامية"، حتى لو اقتصرت مطالبهم على الوقف الفوري للعدوان.
ومن أبرز التطورات في هذا السياق هو محاولات السلطات الألمانية لحظر رفع العلم الفلسطيني في المظاهرات، وهو ما أثار جدلاً واسعاً في أكتوبر/تشرين الأول 2023. هذه المحاولات كانت تهدف إلى ربط أي مظاهرة تدعو للعدالة في فلسطين باتهامات "معاداة السامية"، مما دفع نشطاء ومؤيدين لقضية فلسطين إلى إدانة هذا التصرف، معتبرين أنه يشوه طبيعة المطالب الحقوقية المشروعة ويُسهم في دعم الاحتلال الإسرائيلي.
ألمانيا في الساحة الدولية: بين أوكرانيا وفلسطين
وأوضح وزير الخارجية الألماني أن المستشار فريدريش ميرز يسعى إلى تعزيز دور ألمانيا بشكل أكبر على الساحة الدولية. وقال فادفول: "عندما ننظر إلى كيفية انخراطنا في أوكرانيا، يمكن القول إننا اضطلعنا بدور أكثر بروزاً"، لكن في المقابل ظل الموقف من الحرب على غزة محكوماً بالسرديات الثقافية والتاريخية التي جعلت من انتقاد إسرائيل في ألمانيا أمراً محاطاً بتخوفات من اتهامات بـ"معاداة السامية".
هذا التخوف يعزز من بقاء الموقف الألماني صامتاً أمام الجرائم المرتكبة في غزة، وكان يكرس هيمنة سياسية لإسرائيل في الوعي الألماني، سواء على المستوى الشعبي أو النخبوي، قبل أن تقدم جرائم الحرب فهماً مختلفاً لقضية فلسطين وتخلخلاً لقدسية السردية الصهيونية.
في المجمل، يبقى الموقف الألماني تجاه الاحتلال الإسرائيلي محكوماً بمزيج من المسؤولية التاريخية والتحديات السياسية الراهنة. ورغم التحولات الطفيفة في سياسة برلين تجاه تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، لا يزال هناك تباين كبير بين خطاب الحكومة الألمانية والاتجاهات الشعبية والأوروبية التي تدعو إلى فرض عقوبات على إسرائيل. وفي هذا السياق، تظل قضايا مثل "معاداة السامية" وحرية التعبير عن التضامن مع فلسطين من أبرز القضايا التي تعكس التوترات الداخلية في ألمانيا بين ما يُعتبر "حماية للهوية الوطنية" والمطالبة بالعدالة للفلسطينيين، وسط تحرر كثيرين من "عقدة الذنب" التي تكلف أرواحاً بشرية وحقوقاً وطنية لشعب فلسطين بأكمله.