الساحل... هندسة الأزمات

09 ابريل 2025   |  آخر تحديث: 04:03 (توقيت القدس)
توزيع مساعدات بمدينة سيغو، مالي، 6 مارس 2025 (إلياس غان/الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تصاعدت التوترات بين مالي والجزائر بعد اتهام مالي للجزائر بدعم الإرهاب، مما يعكس تدهور العلاقات الدبلوماسية بين البلدين ويثير تساؤلات حول دوافع مالي في ظل تاريخ طويل من التعاون الأمني والاقتصادي.
- منطقة الساحل تواجه تحديات معقدة من عدم الاستقرار السياسي والإرهاب والجريمة، مما يدفع السكان إلى الهجرة. الأزمة بين الجزائر ومالي تزيد من تعقيد الوضع في المنطقة.
- قوى دولية مثل روسيا تستغل هشاشة منطقة الساحل لتحقيق مصالحها، مما يساهم في استمرار عدم الاستقرار، ووجود مرتزقة مثل مجموعة فاغنر يزيد من تعقيد الوضع الأمني.

كان من الخطأ السياسي أن تتهم مالي الجزائر بدعم الإرهاب ورعاية التنظيمات الإرهابية، في خضم انزلاق وتوتر انفلت فيهما الخطاب السياسي وتحرر من كل الأدبيات الدبلوماسية والضوابط التي تحكم العلاقات في مثل حالات الأزمة، بغض النظر عن صدقية أي من الروايتين بشأن حادث إسقاط الطائرة المسيّرة (الأحد الماضي أطلقتها مالي بالقرب من حدودهما المشتركة). علماً أنها قضية كان يمكن معالجتها بطريقة أخرى، على غرار أزمة مماثلة حدثت- مع فارق السياقات- بين تركيا وروسيا عام 2015، قرب الحدود السورية التركية.

يعني مثل هذا التطور أن هناك حالة تحلل سريعة وغريبة تستدعي الكثير من التساؤل عن الخلفيات والدواعي، بالنسبة لمالي، في ظل عقود من علاقات الصداقة وحسن الجوار، ومحطات من التعاون والتعاضد في محن اقتصادية وأمنية، وتنصل من مجهود لبناء السلام، الذي كان يعني بالنسبة للجزائر أيضاً بناء أمنها القومي الذي يمر حتماً باستقرار مالي. الجزائر، وهي البلد الذي خاض حرباً ضروساً ضد الإرهاب منفرداً دون دعم ومحاصراً إلا من قليل في عقد التسعينيات، عانت في العقدين التاليين، من إرهاب آتٍ من مالي ومنطقة الساحل، غذته عوامل متعددة محلية وأجنبية، تضافرت في توليده أطراف عدة. والهجوم الذي نفذته مجموعة مسلحة أتت من شمال مالي ضد منشأة الغاز تيقنتورين جنوبي الجزائر في يناير/ كانون الثاني 2013، وكلف الجزائر ثمناً باهظاً، يوضح مصدر وخطورة الإرهاب الذي تعاني منه المنطقة.

ثم أبعد من هذا كله، هل كانت منطقة الساحل ودولها بحاجة إلى أزمة أخرى وخلافات تعقد الأوضاع أكثر مما هي معقدة، على غرار هذه الأزمة الطائشة بين الجزائر ومالي والنيجر وبوركينا فاسو (استدعاء السفراء على خلفية إسقاط المسيّرة)، في ظرف دولي خطير وبالغ التشنج؟ وهي المنطقة المتخمة أصلاً بأزمات لا تعد ولا تحصى، من حيث عدم الاستقرار السياسي والهشاشة البالغة للدولة في كل دول الساحل والصحراء، ومن حيث مشكلات الأمن وانتشار السلاح وتنظيمات الإرهاب والجريمة. يأتي ذلك إلى جانب انعدام وجود اقتصادات محلية منتجة والحد الأدنى من البنية التحتية الضرورية، وأوضاع اجتماعية بالغة السوء حيث شعوب المنطقة التي تعيش مشكلات بدائية من الفقر وسوء التغذية وضعف التعليم والصحة، تضطر إلى الهجرة والمخاطرة بحثاً عن لقمة العيش.

خلف أزمات من هذا القبيل ولا شك، هندسة سياسية تبدو خطوط رسمها واضحة للعيان. وأطراف هذه الهندسة أكثر وضوحاً من بين الدول التي بات اشتغالها الأساسي زرع التوترات، كما هو الحال في السودان وليبيا وغيرها، أو تلك التي تحاول شق الصحراء وتغيير جغرافية الساحل، وأخرى منشغلة بالبحث عن مناطق نفوذ جديدة كروسيا. وهي أطراف تركز على إبقاء منطقة الساحل ضمن نفس مناخ المشكلات التقليدية وعدم الاستقرار، وتعمل على توليد الأزمات من داخل الأزمات نفسها وإحباط كل محاولة لتجاوز هذا الوضع وبناء السلم. ومثل هذا المناخ مثالي بالنسبة للقوى التي تغريها ثروات المنطقة لبسط سيطرتها عليها، وهي تستثمر في كل عوامل الهشاشة القائمة لتحل محلها كيانات. فهل كان ينقص المنطقة التي تعج بالسلاح والكيانات المسلحة، مرتزقة فاغنر الروسية، ليصبحوا جزءاً دخيلاً على منظومة الأمن الهشة أصلاً في مالي وفي عموم الساحل؟ يا لهذا البؤس السياسي الذي جثم على دول الساحل، ويا لتعاسة شعوبها.

المساهمون