الحركة الأسيرة: نضال خلف القضبان لتجذير وتعزيز مسار التحرير 

الحركة الأسيرة: نضال خلف القضبان لتجذير وتعزيز مسار التحرير 

26 سبتمبر 2021
حوّل الأسرى المعتقلات من مراكز تعذيب إلى مدارس ثورية (مصطفى حسونة/الأناضول)
+ الخط -

 

رغم إعادة اعتقال المناضلين الستة، إلا أن معجزة سجن جلبوع قد أعادت قضية الأسرى الفلسطينيين ومكانتهم بالوعي الفلسطيني، ومكانة الحركة الأسيرة الفلسطينية بالحركة الوطنية الفلسطينية عموما، ففي الوقت الذي تحاول فيه إسرائيل أن تسلط الضوء على الأبعاد الأمنية لقضية خروجهم من نفق السجن، بقدرتهم على اختراق منظومات الأمن والحراسة، والتداعيات الأمنية لما بعد الخروج، إلا أن ما يقلق إسرائيل أكثر هو التداعيات السياسية والوطنية لعملية الخروج، بإعادة معركة الأدمغة والإرادات بين الحركة الأسيرة خصوصا والحركة الوطنية عموما من جهة، والاحتلال من الجهة الأخرى، وتدرك إسرائيل أن تحول المعتقلين الستة لنماذج بطولية بالوعي الجمعي الفلسطيني، سوف يشجع تكرارها وتطبيق نماذج شبيهة لها من قبل معتقلين آخرين وبأساليب إبداعية أخرى، وخارج المعتقلات بابتداع وسائل جديدة منها نقل تجربة الأنفاق للضفة سيما شمال الضفة القريبة من سجون جلبوع، والتي كشف نفق جلبوع القدرة على حفر الأنفاق بأدوات بسيطة جديدة، وقد يبدأ النفق القادم من أحد المنازل ليصل إلى مستوطنات الضفة أو الداخل، ما يعني تداعيات سياسية واقتصادية وأمنية على الاحتلال ومشروعه.

أرادت إسرائيل من سياسة تحطيم الإرادة الوطنية والمعنويات، إفقاد الإنسان الفلسطيني أدميته ووطنيته وقيمه وصولا لتحويله إلى مهزوم ومأزوم وعبء على الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية، إلا أن إرادات المعتقلين وتضحياتهم الجماعية ومعارك الإرادات والأمعاء الخاوية واستشهاد أكثر من (226 شهيدا) من الحركة الاسيرة الفلسطينية، تجاوزت نتائج تضحياتهم بتحسين ظروف وشروط حياتهم داخل المعتقلات إلى تحويل المعتقلات من أوكار للإفساد والتجهيل، وقبور لقتل النفوس والإرادات إلى مدارس وجامعات ثورية تخرج القادة والكوادر الوطنية، ما جعل المعتقلات مقرا لخيرة الشباب الفلسطيني، الذين واصلوا أعمالهم النضالية والاجتماعية والمؤسساتية بعد الإفراج عنهم، حتى وصلت الأمور لقيادة الأسرى المحررين لأغلبية المؤسسات الوطنية والخيرية والأكاديمية في الضفة والقطاع، وخاصة بعد الإفراج عن مئات الكوادر من سجون الاحتلال بصفقة تبادل الأسرى بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل بالعام 1985.

شهدت الأراضي الفلسطينية المحتلة هبات انتفاضية قوية في منتصف الثمانينيات من القرن الماضي للتضامن مع إضرابات عن الطعام خاضتها الحركة الأسيرة في سجون الاحتلال، مما كشف المخزون الوطني لدى الشعب الفلسطيني، والذي تجسد بالاستجابة الواسعة لنداء الأسرى المضربين عن الطعام للنزول للشوارع دعما ومساندة لهم في معركتهم، وتخللها إفراج الاحتلال عن بعض قادة الحركة الأسيرة المضربين عن الطعام أثناء الإضراب، والذين لم يعودوا إلى بيوتهم وعائلاتهم، بل انتقلوا للاعتصام في مقرات الصليب الأحمر، ومن هناك واصلوا إضرابهم عن الطعام أسوة بزملائهم المضربين، والذي كشف المكانة المؤثرة للأسرى في أوساط الشعب الفلسطيني، والذي تم تجسيده والتعبير عنه بالانتفاضة الشعبية الأولى بالعام 1987 والتي غيرت شكل المنطقة والعلاقة الفلسطينية مع الاحتلال، وصورة الفلسطيني أمام الشعوب الأخرى، واستمرت الانتفاضة الأولى حتى توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير وحكومة إسرائيل بالعام 1993.

شكلت الانتفاضة الأولى المحطة الأهم بتاريخ الشعب الفلسطيني والحركة الأسيرة، وعلاقتها بالحركة الوطنية الفلسطينية برمتها، وانفجرت الانتفاضة بقوة وشمولية بعد خمسة أعوام من إخراج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان بالعام 1982 بعد حرب لبنان الأولى، والذي تزامن مع عدة مشاريع تصفية للقضية الفلسطينية وللتمثيل الفلسطيني بدءا من مشروع روابط القرى ومشاريع عربية ودولية أخرى لتصفية القضية الفلسطينية، وانحسار وتراجع العمل الفدائي والوطني في الخارج. كما مثلت الانتفاضة الأولى محطة انتقال العمل الوطني والكفاحي من الخارج إلى الداخل، وكان لافتا دور خريجي السجون الإسرائيلية بالانتفاضة قيادة وإدارة ومشاركة، لما اكتسبوه من قدرات أمنية ثقافية وقيادية بالسجون بعد أن تحولت لمدارس فكرية وطنية ثورية، حيث إن وقت الأسرى مليء بالنشاطات الثقافية، على مستوى الفصائل عامة وجزء منها خاص بكل فصيل، إضافة لساعات طويلة من المطالعة والكتابة، إضافة لالتحاق الكثيرين من الأسرى بالجامعات، وشكلت أغلبية المؤسسات القيادية والقوات الضاربة ولجان الحراسة والتوعية والتوجيه والتثقيف من خريجي السجون، بدءا من القيادة الوطنية الموحدة للانتفاضة (الإطار الفصائلي الأعلى المركزي لقيادة الانتفاضة على مستوى الضفة الغربية وقطاع غزة)، مرورا بلجان المناطق وانتهاء بالأحياء والحارات.

لم يقتصر دور الأسرى الفلسطينيين على الفعاليات النضالية والعسكرية والأمنية فقط، بل شهدت سنوات الثمانينيات توجها كبيرا، وخاصة بعد صفقة تبادل الأسرى لاختراق المؤسسات والقطاعات المختلفة من قبل الأسرى المحررين، لإدخال المجتمع الفلسطيني ومؤسساته في القالب الوطني ولعدم إبقاء الفعاليات الوطنية حكرا على مجموعة صغيرة بالحركة الوطنية، لتحويل تلك المؤسسات لروافع وطنية، جنبا إلى جنب مع نشاطاتها الأخرى، ولوحظ انتقال عدد كبير من الأسرى المحررين للعمل في أطر ومجالس إدارات المؤسسات الوطنية والأهلية والأكاديمية، والنقابات المختلفة ومجالس الطلبة لما للأسرى المحررين من ثقافة وطنية عالية تؤهلهم لقيادة المؤسسات والاهتمام بالجانب التثقيفي والتوعوي الثوري والوطني، مما دفع قيادة جيش الاحتلال الإسرائيلي على إغلاق المدارس والجامعات بالانتفاضة لما شكلته الحركة الطلابية من رافعة وطنية كبيرة، وردت المؤسسات الوطنية بالمبادرة للتعليم الشعبي بالحارات ودواوين العائلات والمساجد، وتم تطويره لاحقا بافتتاح مدارس ومؤسسات تعليمية خاصة خارج إطار المؤسسات التعليمية الحكومية الخاضعة لسلطات الاحتلال مباشره، وتم استيعاب الطلبة المفصولين من الحكم العسكري، وتعيين مدرسين من أولئك المعتقلين والممنوعين من التدريس في المدارس الحكومية، مما جعل تلك المدارس مؤسسات وطنية ثورية إضافة لكونها تربوية وتعليمية، وسيطر الأسرى المحررون على المؤسسات الإعلامية، والتي لعبت دورا بارزا في الانتفاضة الأولى ونقل أحداثها لكل العالم، وفضح جرائم الاحتلال وإبراز الهوية الوطنية الفلسطينية، كما أشرف الأسرى المحررون وآخرون داخل السجون على تشكيل لجان إصلاح مجتمعية لمواجهة سياسات الاحتلال الفتنية بين مكونات المجتمع الفلسطيني وتغذية الخلافات وخاصة العشائرية، وهنا لا بد من الإشارة إلى أن المرحوم فيصل الحسيني وأثناء وجوده في المعتقل ومعه مجموعة من الأسرى قد أشرفوا على تشكيل لجان إصلاح مجتمعية تحظى باحترام الشارع الفلسطيني، ونجحت في حل الكثير من الخلافات والشجارات، ولعبت دورا مهما في الحفاظ على النسيج المجتمعي الذي عملت إسرائيل على تفتيته، كما شهدت المؤسسات الزراعية والاقتصادية تطورا وطنيا كبيرا في تلك الفترة، بعد الاهتمام الذي حصلت عليه من قبل الحركة الوطنية الفلسطينية وعمودها الأسرى المحررون، وبرز ذلك بتشجيع الاقتصادات المنزلية والعودة لفلاحة وزراعة الأراضي للحفاظ عليها من الاستيطان ودعم الاقتصادي الفلسطيني أيضا.

رغم تجاوز عدد المعتقلين الفلسطينيين المليون منذ العام 1967، وخاصة أن إسرائيل تعتبر من أكبر دول العالم من حيث عدد السجانين قياسا بعدد المعتقلين، إذ يوجد سجان واحد مقابل كل أسيرين فلسطينيين، ورغم شعور الأسرى الفلسطينيين أن اتفاقية أوسلو قد شكلت ضربة لقضيتهم، وجعلت حريتهم مرتبطة بالموافقة الاحتلالية، وأحدثت تمييزا جغرافيا وسياسيا بين المعتقلين، من معتقلي الداخل أو القدس أو الضفة والقطاع، أو من مؤيد للعملية السياسية أو المعارض لها، إلا أن الحركة الأسيرة لم تفقد بوصلتها الوطنية، وبقيت تتبنى نفس الخطاب الوطني اتجاه إسرائيل كعدو، ولا يمكن تحقيق أي إنجاز منها إلا بامتلاك عناصر القوة والاستمرار في المشروع النضالي بأشكاله المتعددة من التثقيف، وبناء خلايا والإضرابات عن الطعام وطعن السجانين، كما حدث أكثر من مرة بقرار من قيادة الأسرى أو بحرق الخيام، وإن حفر نفق سجن جلبوع لم يكن فقط لحل مشكلة مجموعة من المعتقلين بقدر ما كان ترجمة عملية لثقافة الكفاح والتحرر ضد الاحتلال بغض النظر عن النتيجة، والذي يجسد نجاح الحركة الأسيرة بتحويل السجون من مراكز تعذيب وقهر إلى مدارس ثورية خرجت عشرات الألوف من القادة في كل المجالات، وخاصة أن البيانات الصادرة عن مؤسسات أمنية وبحثية إسرائيلية تشير إلى أن أكثر من 40% من الأسرى المحررين عادوا للعمل الكفاحي العنيف ومنهم من تم اعتقاله ومنهم من استشهد، وان الكثير منهم عادوا للعمل الجماهيري والشعبي السلمي، فهذا أكبر دليل على فشل إستراتيجية الاعتقال في العقيدة الأمنية الإسرائيلية، وما حادثة نفق سجن جلبوع إلا مثال حي على ذلك.