الحرب في الخرطوم... فصل من تاريخ الصراع على مركز صناعة القرار

19 فبراير 2025
في الخرطوم بحري، 3 نوفمبر 2024 (أموري فولت براون/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- اندلعت المواجهات بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 أبريل 2023، مما أدى إلى تدمير واسع في الخرطوم وتقاسم السيطرة على مدنها الثلاث.
- يواصل الجيش السوداني تقدمه في الخرطوم، محاولاً قطع خطوط الإمداد وعزل قوات الدعم السريع، مع تركيز المعارك حول القصر الجمهوري.
- تأسست الخرطوم في 1821 ولعبت أدواراً تاريخية مهمة، معروفة بعاصمة اللاءات الثلاث في 1967، وتحتفظ بمعالم تاريخية تعكس ماضيها العسكري.

عند اندلاع الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع في 15 إبريل/نيسان 2023، كانت المدن هي الأكثر تضرراً من العمليات العسكرية العنيفة في الأيام الأولى، لتتحول ولاية الخرطوم العاصمة، حيث انطلقت المواجهات، إلى ثكنة عسكرية، ليجد السكان أنفسهم فجأة عالقين وسط النيران، قبل أن يتقاسم طرفا الحرب السيطرة على مدن العاصمة الثلاث التي تشكل منطقة العاصمة الكبرى، وهي الخرطوم وبحري وأم درمان، أو ما يعرف بـ"العاصمة المثلثة"، والتي يخوض الجيش السوداني حالياً معارك ضارية لاستعادتها بالكامل من قبضة "الدعم السريع".

معارك حاسمة في الخرطوم

تتواصل المعارك في الخرطوم حالياً، والتي قد تكون فاصلة في مسار الحرب السودانية، وتمكن الجيش خلال الأيام الماضية من التقدم في مدينة بحري، وربط مقر سلاح الإشارة ومعسكر المظلات ببعضهما، ووصل إلى القيادة العامة للجيش في مدينة الخرطوم وكسر الحصار عليها. وتتحرك قوات أخرى، من بينها قوات سلاح المدرعات، في منطقة وسط وشرق الخرطوم للسيطرة على القصر الجمهوري الواقع تحت قبضة "الدعم السريع" منذ بداية الحرب وشهد تدميراً كبيراً نتيجة الاشتباكات. وللقصر الذي بدأت عمليات بنائه في سنة 1832 سجل حافل بالأحداث التاريخية، إذ قُتل داخله عام 1885 الجنرال غوردون حاكم السودان البريطاني إبان الحكم التركي المصري للسودان على أيدي أنصار الثورة المهدية. كما شهد احتجاز الرئيس جعفر النميري (1969-1985) داخله لبضعة أيام بعد انقلاب عسكري في 19 يوليو/تموز 1971 بقيادة الرائد هاشم العطا. في المقابل، تتمركز مجموعات "الدعم السريع" بصورة أساسية حالياً في جزيرة توتي التي تتوسط مدن العاصمة الثلاث، إلى جانب قوات لها في مناطق شرق وغرب وجنوب الخرطوم، وقوات أخرى جنوب مدينة أم درمان على الضفة الغربية للنيل، مع عمليات انسحاب تنفذها متجهة إلى جنوب الخرطوم للعبور من هناك إلى مدينة أم درمان من خلال جسر خزان جبل أولياء.

محمد محمود: تسبّبت الحرب في تدمير واسع للخرطوم وتخريب المؤسسات ونهب معالم رئيسية

في هذا الصدد، يقول الصحافي السوداني محمد محمود، لـ"العربي الجديد"، إن الحرب تسبّبت في تدمير واسع للخرطوم وتخريب المؤسسات ونهب معالم رئيسية بسبب أسلوب حرب العصابات والقصف العشوائي الذي تمارسه "الدعم السريع"، مضيفاً "يدعي قادة المليشيا أنهم يحاربون ما يسمونه (دولة 56) وهو تاريخ استقلال السودان 1956، معتبرين أن النخبة التي حكمت البلاد منذ ذلك الوقت هضمت حقوقهم تاريخياً ويريدون الآن التخلص من كل ما يرمز للدولة القديمة حتى المباني التاريخية، وعلى رأسها القصر الجمهوري مركز السلطة والذي ألحقوا به دماراً كبيراً". ويلفت إلى أن "القتال الآن لتحرير الخرطوم هو حرب شوارع حقيقية، إذ يعمل الجيش على قطع خطوط الإمداد للقوات الموجودة في مناطق مثل جزيرة توتي والقصر الجمهوري وشرق الخرطوم، وفتح طرق تربط قواته ببعضها، ما يعزل مجموعات الدعم السريع عن بعضها ويفتح لها طريقاً نحو جنوب المدينة للخروج غرباً إذا أرادت الانسحاب، إلى جانب تقدّم قوات من الولايات حول العاصمة في ما يشبه الحصار".

ويشير محمود إلى أن جنود الجيش، خصوصاً أبناء المدينة، هم أكثر معرفة بشوارع العاصمة وأزقتها من مقاتلي "الدعم"، معتبراً أن "معركة وسط الخرطوم التي تدور حالياً وتشارك بها أهم وحدة وهي سلاح المدرعات، هي معركة فاصلة، وهزيمة المليشيا هناك والتقاء الجيوش في القصر الجمهوري سيكونان بداية الانهيار المتسارعة لها في كل أجزاء البلاد". من جهته، يرى الباحث أبو القاسم إبراهيم، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن الخرطوم المدينة كانت دائماً هدفاً سياسياً وعسكرياً لمعارضي النظام القائم، باعتبارها مركز السلطة وصناعة القرار السياسي والعسكري، وعلى الرغم مما يحدث بها حالياً، لكنها مدينة يصعب السيطرة عليها بصورة كاملة من خلال الهجوم البري بسبب تكوّنها من ثلاث مدن يشقها النيلان الأبيض والأزرق، خصوصاً الخرطوم المدينة التي تحيط بها المياه من ثلاثة جوانب ولا يمكن الوصول إليها من مدينتي بحري وأم درمان إلا من خلال الجسور.

ويلفت إبراهيم إلى أن "الدعم السريع ما كانت لتسيطر على هذه المساحات الواسعة من الخرطوم لولا وجودها أصلاً داخل المدينة عند اندلاع الحرب"، مبيناً أن "الدعم تتعرض حالياً للهزيمة والحصار وتفقد مواقع جديدة يومياً بسبب تقدّم الجيش واستعادته العديد من مواقعه الاستراتيجية، ما يجعلها أمام خيارين، إما البقاء والاستماتة في المعركة وفقدان فرصة الهروب، أو إخلاء العاصمة كلياً والاتجاه غرباً إلى ولايات دارفور في انتظار المعركة الأخيرة".

الخرطوم في تاريخ السودان

تأسست الخرطوم المدينة على يد الجيش العثماني في عهد محمد علي باشا عام 1821، واتخذها الأتراك في البداية معسكراً لجيوشهم، ثم تحوّلت إلى عاصمة لهم في عهد عثمان جركس باشا البرنجي عام 1824 بعد تعيينه حاكماً على السودان. وتقع الخرطوم عند نقطة التقاء النيل الأبيض بالنيل الأزرق (المقرن) ليُشكلا معاً نهر النيل المتجه شمالاً، وهي مركز الحكم ومقر دواوين الدولة الرئيسية وقيادة الجيش ومقار البعثات الدبلوماسية الأجنبية والمطار الدولي.

لعبت الخرطوم أدواراً تاريخية في محيطها العربي والإقليمي وعُرفت بعاصمة اللاءات الثلاث

وتقع الخرطوم في الجزء الشمالي الشرقي من أواسط البلاد، في مساحة تقدر بـ20736 كيلومتراً مربعاً، ولديها حدود مع ولايات نهر النيل، الولاية الشمالية، كسلا، القضارف، النيل الأبيض، الجزيرة، وشمال كردفان. وأدت الخرطوم أدواراً تاريخية في محيطها العربي والإقليمي وعُرفت بعاصمة اللاءات الثلاث "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف بإسرائيل" التي خرجت عن "قمة الخرطوم" خلال مؤتمر القمة الرابع لجامعة الدولة العربية 1967 في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، كما لعبت المدينة دوراً مهماً وداعماً للعديد من حركات التحرر الأفريقية. وشهدت الخرطوم طوال تاريخها العديد من الحروب والغزوات باعتبارها ظلت على الدوام مركزاً للسلطة السياسية والقيادة العسكرية، وكان تحريرها من قبل الثورة المهدية في العام 1885 الحدث الأبرز في تاريخها الحديث، حين اجتاحت جيوش الإمام محمد أحمد المهدي (زعيم الثورة المهدية) المدينة وحررتها من قبضة الحكم الثنائي التركي المصري بعد حصار مطوّل قُتل بعده الحاكم العام الانكليزي للسودان غوردون باشا. وبعد سنوات شهدت معارك جديدة قادها المستعمر الانكليزي الذي استعادها وأعاد تعميرها حتى استقلال البلاد في العام 1956.

وفي 2 يوليو 1976 شهدت الخرطوم معارك عسكرية في شوارعها بعد هجوم شنته مجموعات مسلحة تابعة لـ"الجبهة الوطنية" (تحالف سياسي بين حزب الأمة والوطني الاتحادي والإخوان المسلمين)، وقدمت معظم القوات عبر الصحراء من مواقعها في الجماهيرية الليبية آنذاك لإسقاط نظام الرئيس جعفر النميري، واستمرت الاشتباكات لثلاثة أيام قبل أن يستعيد الجيش زمام الأمور ويحسم المعركة لصالحه. وكانت أبرز المواجهات العسكرية قبل الحرب الحالية هي الهجوم الذي شنته حركة العدل والمساواة في 10 مايو/أيار 2008 على الخرطوم انطلاقاً من إقليم دارفور غربي السودان، ووصلت حتى مدينة أم درمان، الضلع الثاني للعاصمة، في إطار سعي الحركة التي أصبحت شريكاً للجيش الآن بموجب اتفاقية سلام في أغسطس/آب 2020، لنقل المعركة إلى العاصمة حيث كان يقبع نظام الرئيس المخلوع عمر البشير حينها، وانتهت المعركة بهزيمة الحركة بعد نحو ثلاثة أيام من المواجهات.

ولا يزال وسط الخرطوم يضم معالم تكشف تاريخها مع المعارك العسكرية، إذ تقع وسط المدينة "المقبرة التذكارية" لرفات قتلى دول الكومنولث "الحلفاء" أثناء الحربين العالميتين الأولى والثانية، ومقبرة للجنود البريطانيين متعددي الجنسيات الذين قتلوا أثناء معارك الدولة المهدية في السودان مع القوات الغازية. وفي موقع ليس ببعيد عن القصر الجمهوري وسط المدينة، تقع "مقابر الأتراك"، ويضم الموقع قبتين عاليتين ومقابر عادية دفن بها عدد من القادة الأتراك. كما توجد في الخرطوم مجموعة من "الطوابي" وهي جدران طينية دفاعية مع فتحات في الوسط لإدخال البنادق وفوهات المدافع، واستخدمت خلال حروب الثورة المهدية وما زال بعضها قائماً.