استمع إلى الملخص
- منذ ما قبل 2015، وضعت الجزائر العلاقة مع تركيا في إطار استراتيجي، مما أدى إلى استثمارات تركية بقيمة 6 مليارات دولار وتجارة بينية بنفس القيمة، مدعومة بعوامل ثقافية وتاريخية مشتركة.
- زيارة وزير الخارجية التركي الأخيرة تعكس الثقة المتبادلة، مع التركيز على التعاون الاقتصادي والصناعات الدفاعية، مع ضرورة تفهم المواقف الجيوسياسية الحساسة للطرفين.
في الجزائر، العلاقة مع تركيا ما زالت قضية متباينة وغير متوافق عليها لدى النّخب والمجتمع السياسي، ويتجدّد النقاش بشأنها مع كل زيارة رفيعة أو استحقاق مشترك. ينظر البعض بعين حذرة إلى هذه العلاقة لاعتبارات أيديولوجية عدّة، بعضها تخصّ الخلفية السياسية لحزب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الحاكم (العدالة والتنمية)، وبعضها تتعلّق بسياسات تركيا في الإقليم العربي ودعمها للإسلاميين وثورات الربيع العربي عام 2011، كما يُنظر إلى الدور والنفوذ التركي المتصاعد في منطقة الساحل الأفريقي القريبة من الجزائر، وفي مستوى آخر إلى العلاقات التركية- الإسرائيلية.
هناك بالتأكيد نقاط اختلاف عديدة، وتباين في الموقف من قضايا ومسائل بين الجزائر وتركيا في سورية وفي مالي وفي ليبيا. لكل بلد عقيدته السياسية ومنطلقاته التي يمكن أن تفسّر ذلك. هناك أيضاً الموقع على صعيد الجغرافيا السياسية وخريطة التأثير الإقليمي والدولي بالنسبة لكل بلد، لكنّ العلاقة مع تركيا تمثل بالنسبة للجزائر خياراً حيوياً ضمن استدارتها نحو الشرق. اختارت الجزائر تركيا ضمن أبرز نقاط الارتكاز للمساعدة على إحداث ديناميكيات التحوّل من اقتصاد الريع النفطي إلى اقتصاد منتج، وفي إنعاش قطاعات حيوية، ولكون تركيا فاعلاً دولياً وإقليمياً مهماً ومؤثراً له خصوصيته التي تتقاطع في كثير من المسائل مع الجزائر.
تغفل هذه النخب التي تعيد إنتاج الجدل المشحون أيديولوجياً، أنّ الجزائر وضعت منذ ما قبل 2015، العلاقة مع تركيا، ضمن المستوى الاستراتيجي الذي يتجاوز مفهوم العلاقة التقليدية، إذ انتقلت الجزائر وأنقرة إلى مأسسة هذه العلاقة وتركيزها في أطر تضمن تحويلها إلى علاقة ناجعة ومنتجة للقيمة السياسية والاقتصادية للبلدَين. والنتائج التي تحقّقت على هذا الصعيد في فترة قصيرة من عمر هذا التحوّل في العلاقة، (6 مليارات دولار حجم الاستثمارات التركية و6 مليارات حجم التجارة البينية)، يؤكد أن التفاهم السياسي بين البلدَين عميق، تسنده عوامل ثقافية وتاريخية مشتركة.
في زيارته الأخيرة إلى الجزائر (الأحد والاثنين الماضيَين)، يؤكد وزير الخارجية التركي هاكان فيدان أن أنقرة "تثق في الجزائر"، وهذه الثقة السياسية التي يترجمها تصعيد قياسي للمستوى الاقتصادي بين البلدَين، وإطلاق مشروعات مشتركة في الصناعات الدفاعية، يجب أن تتعزز بمقتضيات بالغة الأهمية. يتعين على أنقرة تفهّم الموقف الجزائري الذي يتحسّس من مسائل الجغرافيا السياسية في المنطقة القريبة من الجزائر، من ذلك أن الجزائر لن تكون راضية بالتأكيد على إمداد أنقرة للجيش المالي بطائرات بيرقدار المسيّرة لاستخدامها في قصف مناطق الأزواد على المسافة صفر من الحدود الجزائرية، كما أنه لا يمكن إحداث هندسة أمنية وسياسية جديدة في المنطقة دون الجزائر. ويتعيّن على الجزائر في المقابل الأخذ بعين الاعتبار أن اندفاع تركيا
إلى الجغرافيا القريبة منها، يفرضه التدافع القائم مع دول مثل روسيا والصين في المنطقة.
المسألة لا تخضع لمستوى قياس العواطف، لكنْ مرَّ مِن وقت هذه العلاقة المتطوّرة ما يكفي لتفهُّم كل طرفٍ استحقاقات الطرف الآخر. ومن حيث التوقيت السياسي لزيارة هاكان، بخلفيته الأمنية قائداً سابقاً لجهاز الاستخبارات وأحد مهندسي سياسات التمدّد التركي، فإنه خطوة تعطي إشارة مطمئنة جداً على قدرة الطرفَين، وأنقرة بالتحديد، على رصد القلق، واتخاذ ما يجب من رغبة إيجابية مشتركة في إزالة أي سوء تفاهم يخصّ قضايا ثنائية أو إقليمية... وهذه بكل الأحوال حكمة سياسية تحمي هذه العلاقة من تضخّمٍ في "الأنا" الجزائريّة، ومن "الأنانية التركية".