الجزائر... من يطحن الماء؟

27 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 04:06 (توقيت القدس)
تظاهرة معارضة للحكومة في الجزائر، 16 إبريل 2021 (رياض قرمدي/فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تشهد الجزائر جدلاً حاداً بين التيارات السياسية حول قضايا المرأة والمدرسة والتشريعات، مع اتهامات متبادلة بالتوغل في السلطة، بينما تستغل السلطة هذا الصدام لتأخير المسألة الديمقراطية.
- تستخدم السلطة الجزائرية تكتيكات للحفاظ على هيمنتها، حيث تمنع التيارات السياسية من المشاركة في القرارات الكبرى، مما يعكس استراتيجية لتشتيت الانتباه السياسي وتعطيل التغيير.
- أظهر الحراك الشعبي في 2019 أن المشكلة الأساسية تكمن في غياب الحريات والديمقراطية، مما يجعل النقاش حول القضايا المهمة مستحيلاً ويعيق التقدم.

في كلّ مناسبة تُطرح فيها قضايا لها احتكاك بقضايا المرأة والمدرسة والتشريعات ذات الصلة بالمرجعيات الأساسية في الجزائر، يحدث جدل صاخب بين التيارات السياسية، التقدمية والإسلامية بشكل خاص. المثير في الأمر بروز اتهامات متبادلة إلى حدّ من التناقض، كل طرف يتهم الآخر بالتوغل في السلطة والتغول داخل الحكم، بينما الواقع السياسي القائم في البلاد، يؤكد أن كليهما على هامش كل ذلك، أما السلطة فتدير اللعبة السياسية وتستفيد من هذا الصدام الذي يسهم دائماً في تأخير المسألة الديمقراطية.

عاد هذا الجدل هذه المرة بمناسبة إعلان الجزائر السبت الماضي، رفع التحفظ على الفقرة الرابعة من المادة 15 من اتفاقية سيداو للقضاء على التمييز بحق المرأة. قبل فترة قصيرة، كتب مؤسس التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية، أبرز القوى العلمانية في الجزائر، سعيد سعدي، أن "الإسلاميين تمكنوا من بسط نفوذهم على السلطة". وفي الأثناء، كتب الرئيس السابق لحركة مجتمع السلم، أكبر الأحزاب الإسلامية في الجزائر، عبد الرزاق مقري، أنّ "العلمانيين هم النافذون داخل السلطة والإسلاميين يكتفون بالقشور". لكلّ من الرجلين أهميته ومركزه في التيارات التي يمثلها، ولذلك تثير مثل هذه التقديرات بحق، سؤالاً جدياً حول المسألة: من يتغول حقاً؟ ومن النافذ بحق؟

في الواقع، أحدهما يطحن الماء، والثاني يغربل الهواء، هذا هو المشهد بكثير من البساطة. لم تكن السلطة لتسمح لأي من التيارين أن يشاركها في تسطير الخيارات السياسية والمسالك الاقتصادية والسياسات الاجتماعية، إلا بقدر حاجتها التكتيكية لأحدهما في ظروف معينة، ضمن سياق تسييرها لأزمات الحكم وإدارة مشكلات الحوكمة الكامنة لدى السلطة في الجزائر، والحفاظ على توازنات مجتمعية بعينها. أما قوى التيار الموسوم بالوطني، فهي الأخرى، لا في العير ولا في النفير، لا تستشار في تشكيل حكومة ولا في تعديلها، فما بالك بالحكم والخيارات الكبرى للبلاد.

هذا واحد من أكثر الأساليب التي تنتهجها السلطة لإبقاء هيمنتها على الشأن العام، وتشتيت الانتباه السياسي، وتثبيت خطوط الانقسام الفاصلة بين المجتمع السياسي، وتعطيل أي إمكانية لتشكيل اتجاه عام يدفع نحو التغيير، خصوصاً في الظروف التي تستشعر فيها السلطة مصاعب وأوضاعاً سياسية واجتماعية واقتصادية قلقة، في الغالب تقدم نفسها للتيارات المحافظة على أنها أكثر التزاماً بالقيم المحلية في القضايا والخيارات الكبرى، وأن بعض الخطوات التي قد تبدو خلاف ذلك، ليست سوى تكتيكات سياسية ظرفية في علاقة بضغوط داخلية أو إكراهات خارجية، وتقدم نفسها في المقابل للتيار التقدمي بوصفها سلطة منخرطة في مسارات الحداثة والعصرنة والقيم التقدمية.
لكل من هذه التيارات إسهامه السياسي الذي لا يمكن أن يقلل منه أو يلغيه موقف، لكن كلما انشغلت هذه التيارات واستنفرت إلى قضايا جدلية تجاوزها الواقع عملياً، تمّ تحييد مسائل أكثر أهمية من صلب المطلب الديمقراطي. إنه أمر يشبه الصدام على مقعد في السينما بالظلام.

يشكّل الحراك الشعبي عام 2019، رسالة بالغة الوضوح إلى هذه التيارات، بأن المعضلة الأساس تكمن في مأزق الحريات والبناء الديمقراطي المغيّب بكل أبعاده الأساسية في البلاد. في غياب ذلك، لن يكون ممكناً للجزائريين إجراء نقاشات هادئة في القضايا التي تهم حاضرهم ومستقبلهم. في غياب ذلك، تبقى الحلقة مفرغة والدوران مستمراً.