كأن شيئاً لم يكن. لم تعلن السلطة في الجزائر الحداد، ولو رمزياً، على ضحايا حرائق الأربعاء الأسود في البلاد (في حدود 40 ضحية)، ولم ينعقد اجتماع طارئ لمجلس الوزراء. كما لم ينعقد مجلس الحكومة على عجل لتدارس الكارثة، ولم يتداع البرلمان أو أي من هيئاته للانعقاد في جلسة استثنائية.
وبعد أسبوع، لم يعقد أي مسؤول حكومي مؤتمراً صحافياً لمكاشفة الرأي العام حول ما حدث وتحديد المسؤوليات: لا حصيلة رسمية ولا إعلان عن خطة لجبر الضرر الانساني والبيئي. لا شيء من ذلك حدث في مقام كارثة، كان يفترض أن يحدث بعدها الكثير.
المسألة تتعلق في النهاية بطبيعة السلطة السياسية التي لم تتغير لديها "ميكانيزمات" (آليات) تدبير الشأن العام، أو "بيداغوجيا" (الأصول العلمية المنهجية) التعامل مع الظروف الطارئة، لأن الحكومة كجهاز، أو السلطة كمنظومة، لا تزال تضع نفسها خارج حدود المساءلة، وهي غير مبرمجة على أي "سيستم" للإقرار بالتقصير أو الاعتراف بالأخطاء، وغير معنية بتحمل المسؤولية. أما الاستقالة، فتلك نادرة ولا تحدث في الجزائر إلا قليلاً.
والحكومة في الجزائر لا تزال تفكر في الصورة، أكثر من التصور. حضر رئيس الحكومة الجزائرية أيمن عبد الرحمن، إلى منطقة الحرائق لاستطلاع الوضع والكارثة التي حلّت بمنطقة الطارف شرقي الجزائر الخميس الماضي، كصورة، لكنه لم يملك تصوراً لمعالجة المخلفات، ولا يمتلك رؤية لمنع تكرار ما حدث. قال إنه جاء "بأمر من رئيس الجمهورية" عبد المجيد تبون، بمعنى أن الرجل لا يشعر بأن مسؤولياته الأخلاقية ومنصبه الوظيفي ومقامه السياسي كرئيس حكومة، هي التي تفرض عليه ذلك قبل "أمر الرئيس". وهذا التصريح هو جزء من عقيدة مشوشة لدى البيروقراطي الجزائري الموظف في مؤسسة الحكم، والعربي بشكل عام. من جانب آخر، يعلّق نفس المسؤول مسؤولية الكارثة على أقدار الله وعوامل الطبيعة.
في الواقع، لم يطلب أحد من الحكومة أن ترد القضاء والقدر، سواء بخصوص الحرائق أو غيرها من الكوارث والأزمات، لكن الحكومة التي تعلّق كل ذلك على القضاء والقدر، أو على المؤامرة، هي حكومة "كهنوت"، تسير على هدي "الله غالب"، بينما يتطلب تدبير الشأن العام عقلاً استباقياً، وتخطيطاً يستفيد من علوم العصر والتكنولوجيا، وترتيباً للأولويات بحسب الحاجة. ومن ذلك، أن الصيف يأتي كل عام، والحرارة تأتي كل الصيف، والحرائق تأتي مع الحرارة كل عام أيضاً. ومع ذلك، لا تتخذ السلطة الحد الأدنى من التدابير والإمكانات التي تحد من خسائر الحرائق المهولة، وكأن الحرائق الكارثية في منطقة القبائل، العام الماضي، لم تكن، بحيث لم تستوعب منها الحكومة درساً أو عبرة.
المؤسف أن كل تلك الثقة والنشوة التي راكمها الجزائريون بعد الاستعراض العسكري الأخير في يوليو/تموز الماضي، والذي أظهرت فيها الجزائر قدراتها العسكرية الحمائية، وُضعت لدى الجزائريين في لحظة انفعال وغضب، محل تساؤل كبير.
لأنه في اللحظة التي ضغط فيها ألم الموت ومشاهد الجثث المتفحمة في حرائق الأربعاء الأسود، بشدة، على جراح الجزائريين المتكررة، حدّثهم الألم عن معنى أن تملك الجزائر أحدث الأسلحة والطائرات والمنظومات المتعددة (وتلك ضرورة قصوى ولا بد)، بينما تفتقد في الوقت نفسه طائرة إطفاء واحدة، والمقدرات اللازمة لحماية الأمن البيئي.
ويؤشر ذلك على اختلال كبير لدى السلطة في إحداث التوازن الضروري بين المجالات بالغة الحيوية، لأنه حين يصبح العالم على شفير حروب المياه والقمح، يصبح الأمن البيئي في العمق، الأعمق للأمن القومي لأي بلد.