بغضّ النظر عن أي تفاهمات سياسية واقتصادية تكون قد تمت في السر أو في العلن بين أعلى سلطتين في الجزائر وفرنسا، لاعتبارات علاقة الدولة بالدولة، فإن ثمة حقيقة برزت خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الجزائر، وهي أن الأجيال الجديدة في الجزائر هي الأكثر تمسكاً بمحاسبة فرنسا على جرائمها الاستعمارية في حق الجزائريين. هذا الأمر مطمئن بأن الحقوق التاريخية والذاكرة الأليمة لدى الجزائريين تترسخ أكثر، تتسع ولا تتقلص، وملفاتها تتزايد ولا تنقص.
في عام 2007 أدلى وزير الخارجية الفرنسي السابق برنار كوشنير بتصريح أثار الجدل في الجزائر، يفيد بأنه مع رحيل وموت جيل الثورة والمجاهدين في الجزائر، فإن معالجة قضية الذاكرة سيكون أيسر، مضيفاً "العلاقات بين فرنسا والجزائر ستكون ربما أقل تعقيداً حين يغادر جيل الاستقلال السلطة في الجزائر".
وكان واضحاً أن هذا التصريح يكشف عن رهان أساسي للمؤسسة الرسمية في فرنسا على رحيل الجيل الذي عاش عذابات الاستعمار، بما يتيح ظروفاً مساعدة لتسوية سياسية للملف واستحقاقاته.
مع الريح ذهبت فكرة كوشنير، فما يحدث في الواقع مغاير تماماً للرهانات الفرنسية، لأنه مع مرور الوقت وقدوم أجيال جزائرية جديدة من النخب الأكثر انفتاحاً علمياً وقدرة على الحفر بحثاً في الحقائق التاريخية، فإن سقف المطالب الجزائرية بشأن الذاكرة والاستحقاقات المتعلقة بجرائم الاستعمار يرتفع أكثر، والملفات تتزايد مع دخول قضايا لم تكن مطروحة قبل سنوات.
والدليل على ذلك قضية استرجاع جماجم المقاومين، وهي قضية حديثة ولم تكن معروفة قبل سنوات، ومسألة التفجيرات النووية وتطهير المنطقة الصحراوية والأرشيف الجزائري وقضية المفقودين خلال ثورة التحرير.
وفي الفترة الأخيرة بدأت تبرز نقاشات حول المنقولات والديون المستحقة التي على عاتق باريس قبل استعمار الجزائر وتتشكل في صيغة مطالب جديدة.
هذا الأمر يعني أنه على الرغم من مرور ستة عقود من الاستقلال، وهي فترة ليست بالقصيرة، وانصراف الجزائر في العقود الأولى إلى استحقاقات بناء الدولة وتنظيم المجتمع، والتغافل نسبياً عن مناكفة فرنسا بشأن مخلفات وجرائم الاستعمار، فإن الأجيال الجديدة في الجزائر، تبدي استعداء أكبر لفرنسا الاستعمارية، وتمسكاً أكبر بالحقوق التاريخية، وعبّرت عن ذلك بوضوح خلال تظاهرات الحراك الشعبي عام 2019 بشكل خاص.
يفترض أن التقييم الذي ستجريه المؤسسة الرسمية الفرنسية لزيارة ماكرون سيخلص إلى ذلك، بل إن ماكرون نفسه قال ما يفيد بذلك، عندما اتهم دولاً مثل تركيا بتغذية كراهية الجزائريين لفرنسا.
وفي الحقيقة مثل هذا الواقع هو الأكثر ملاءمة لدفع فرنسا إلى القبول بتسوية عادلة ومنصفة لقضايا الذاكرة، لأنه ليس هناك أكثر نجاعة من أن تواجه فرنسا بكل جرأة تاريخها الدامي، وتقر بصورة صريحة بجرائم الاستعمار وتعتذر باسم الدولة، وتقدّم الحقوق المادية المستحقة تعويضاً عن ذلك.
هذا هو السبيل الوحيد لخلق مسار تأسيسي لعلاقات سوية ومستقرة، وما عدا ذلك فإن السلطة الجزائرية نفسها لا تملك حق التنازل عن الحقوق الجزائرية، وكل محاولة للالتفاف على التاريخ تحت معنى الاقتصاد والشراكة والتطلع إلى المستقبل، لن يكتب لها النجاح، ويمكن لمجرد تصريح كالذي أدلى به ماكرون في أكتوبر/تشرين الثاني الماضي، أن ينسف كل شيء، حين قال إن "الجزائر لم تكن أمّة قبل الاستعمار". تلك عقدة لا يجب البحث عن فكها بعيداً عن العقدة نفسها، فحيث العقدة يجب أن يكون الفك.