استمع إلى الملخص
- النخب الجزائرية، سواء السياسية أو العسكرية أو الاقتصادية، تحررت من الارتباطات القصرية مع فرنسا، مما يعزز موقف الجزائر في إدارة الأزمة ويعكس تحولاً في العلاقات الثنائية.
- صعود اليمين المتطرف في فرنسا جعل الجزائر موضوعاً أساسياً في النقاشات السياسية، مما يعزز استمرار الأزمة حتى انتخابات الرئاسة الفرنسية في 2027.
كل تقدير سياسي أو تحليل كان يتوقع انفراجاً في الأزمة السياسية بين الجزائر وفرنسا، لمجرد اتصال هاتفي بين الرئيسين عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون، وزيارة وزير الخارجية جان نويل بارو إلى الجزائر، هو تقدير لا ينتبه إلى المتغير الحاصل أفقياً وعمودياً في الجزائر تجاه فرنسا، على صعيد الحكم والنخب السياسية والعسكرية والاقتصادية.
الأزمة القائمة بين الجزائر وفرنسا أكثر منها أزمة قضية محددة يمكن معالجتها في زيارة، بل هي من ذلك النوع من الأزمات التي تستمر طويلاً في الزمن السياسي، وتأخذ نسقاً يستحضر ملفات متفرعة وقضايا لا تنتهي، وتحتاج إلى مجهود سياسي كبير لضبطها، لا يبدو أن كلاً من الجزائر وفرنسا مستعدتان لبذله في الوقت الحالي، وإلى تنازلات مؤلمة لن يقدم أي من البلدين على تقديمها. هناك ما يدعو إلى الاعتقاد أن هذه الأزمة عززت تأييد المجتمع والرأي العام للسلطة في الجزائر، بينما باتت بالنسبة لفرنسا ضرورية للحفاظ على التحالف الحكومي.
لا يمكن تقدير مسارات الأزمة ومآلاتها المقبلة، من دون قراءة على نحو موضوعي ثلاثة متغيرات جزائرية أساسية في العلاقة مع فرنسا، الأول على صعيد النخب السياسية، سواء تلك التي تتصدر الحكم أو تلك التي تتوزع في المؤسسات التمثيلية والمجتمع السياسي، هي نخب من جيل الاستقلال تخلصت من كل الاستحقاقات والحتميات التي فرضتها ظروف الاستقلال وتشكُّل الدولة الوطنية الفتية، ومن حمل العوامل التي فرضت نوعاً من الارتباطات القصرية مع فرنسا، بما فيها الجانب الثقافي، واستوعبت هذه النخب الجزائرية أن هذا الارتباط تحوّل إلى قيود تمنع تكريس الأبعاد الكاملة للاستقلال الوطني.
في المستوى الثاني، وبغضّ النظر عن ذلك النقاش المزمن في الجزائر حول دور العسكر في الحكم، فإن متغير النخب العسكرية التي تدير المؤسسات الصلبة في الجزائر وتشارك في القرار السياسي وصياغة الخيارات له تأثير في محددات العلاقة مع فرنسا وفي تسيير الأزمة. النخب الحالية من جيل الاستقلال متحررة هي الأخرى من إكراهات سابقة في العلاقة مع فرنسا، وتقف على رصيد معرفي وعلمي وأكثر معرفة بقراءة للخرائط، وأكثر فهماً للجغرافيا السياسية، وقد وفّر لها ذلك قدرة على تحديد الموقف السليم بالنسبة للجزائر وإدراك الدور الفرنسي في المنطقة ككل، والذي ينظر له في الجزائر على أنه دور مريب وغير إيجابي.
ولا يمكن إغفال أن النخب الاقتصادية في الجزائر تحررت أيضاً بفعل أسباب مختلفة، من مقتضيات الارتباط بالضرورة بالصورة الفرنسية، واكتشفت هذه النخب عوالم أخرى في الاقتصاد والتجارة غير فرنسا، في الصين وآسيا الوسطى والخليج وأوروبا الشرقية وأفريقيا، وانفتحت على مناطق نشاط ثروة خارج النطاق الفرنسي الذي كان يطبّق لعقود على مداخل الاقتصاد الجزائري، ويغلق على المؤسسات الجزائرية ويجبرها على التعامل مع سوق واحد وهو السوق الفرنسي.
إذا أضيف إلى ذلك، ما يتصل بالمشهد السياسي في فرنسا، والذي أصبحت فيه الجزائر موضوعاً أساسياً ويومياً في النقاشات، بعد صعود اليمين المتطرف الذي يؤسس مواقفه على مسألتين، مناكفة الجزائر وقضايا الهجرة والمهاجرين، فإن الأزمة هذه ولا شك أزمة وُجدت لتستمر، على الأقل حتى انتخابات الرئاسة في فرنسا 2027.