هل يمكن أن يكون المجتمع المدني في الجزائر، على هشاشته الراهنة وارتباطاته الريعية والنفعية بالسلطة، بديلاً للأحزاب السياسية في البرلمان والحكومة والبلديات؟ وهل للمجتمع المدني مشروع سياسي يمكن تحويله إلى برنامج للحكم بالأساس؟
بشكل غير مسبوق تدفع السلطة السياسية في الجزائر بفعاليات المجتمع المدني دفعاً، لتكون الحصان الرئيس والقوة المهيمنة على برلمان يونيو/حزيران 2021، بهدف تشكيل أغلبية رئاسية لصالح الرئيس عبد المجيد تبون. على هذا النحو يجري تفصيل المشهد الجزائري من قبل السلطة، مواءمة لمرحلة ما بعد الانتخابات البرلمانية.
تستند السلطة في هذا الخيار إلى موقف عاصف للحراك في بداياته من الأحزاب السياسية عامة. إذ يُنكر الكثير من الجزائريين على الأحزاب إخفاقها في إحداث فارق وصنع التغيير، ويعتقدون أنها كانت شريكة للسلطة في صناعة النكبات السياسية والاقتصادية. ويجزم الجزائريون أن الأحزاب، سواء تلك التي جربت خيار المشاركة في الحكومة أو التي بقيت خارجها، شريكة للسلطة في إنتاج منظومة حكم فاشلة دفعت الدولة إلى حافة الانهيار، وأنه بسبب القبول بمسايرة نظام فاسد تم إتلاف مقدرات البلد.
في هذا التقييم قليل من العدل وكثير من الظلم للحركة السياسية ونضالاتها من أجل الديمقراطية في الجزائر. فقد بذلت الأحزاب الملتزمة بالمسألة الديمقراطية والحريات جهداً نضالياً مشهوداً، واستخدمت ما أمكن من الأدوات التي أتيحت لها لمقاومة الاستبداد على مراحل مختلفة. وجربت، على اختلافها، وسائل متعددة لإحداث التغيير السياسي والتطور التدريجي نحو الديمقراطية، في بيئة معطلة، وفي ظل نظام حكم مغلق وظروف بالغة التعقيد، بينما ركن المجتمع بالكامل إلى الكسل، واستسلم للريع السلطوي.
لم يكن ممكناً للحراك الشعبي أن يكون كلحظة ثورية لولا نضال متراكم للأحزاب الملتزمة بالمطلب الديمقراطي، من يساريين وإسلاميين وتقدميين، ولولا نضالات نقابية وتضحيات فواعل مدنية وأقلام صحافية وجهد الحركة الحقوقية، وغيرها من الفواعل الحية، التي خاضت جولات من التدافع مع السلطة من أجل الديمقراطية. وقد نجحت في محطات أقل، وأخفقت في أكثرها لأسباب موضوعية، بحيث لم تكن الموازين متكافئة مطلقاً. ولا يجب التغاضي عن كل ذلك. وفي تاريخ الجزائر حالة قرينة لذلك تماماً، مع فارق السياقات. صحيح أن ثورة التحرير (نوفمبر/تشرين الثاني 1954)، كانت لحظة ثورية فاجأت الحركة الوطنية في تلك المرحلة العصيبة من تاريخ الظلم، لكنها ثورة لم تكن لتحدث لولا تراكم نضالي للقوى الوطنية باختلاف مشاربها.
كان واضحاً منذ بداية الحراك الشعبي في فبراير/شباط 2019 أن خطاب شيطنة الأحزاب لم يكن عفوياً، بل كان منتجاً بطريقة بيداغوجية استهدفت تحييد الأحزاب وعزلها عن حراك الشارع، ليسهل للسلطة الانفراد به وتفكيكه عبر مدخلات كثيرة، ولمنع تأطيره سياسياً ومساعدته على صياغة مشروع تغيير. سقط الحراك في هذا الفخ مبكراً، وانكمشت الأحزاب عنه. خسر كلاهما وربحت السلطة اللعبة في النهاية.
ما يحدث عشية الانتخابات البرلمانية من تعبئة المجتمع المدني في قوائم المستقلين، ودفعها للسيطرة على البرلمان المقبل، هو استكمال لعملية تحييد الأحزاب من المشهد السياسي. من الواضح أن السلطة لا تدرك مخاطر هذا الخيار الذي سينتج برلماناً شعبوياً، بحيث لا يمكن تشكيل أغلبية برلمانية من قوائم مستقلة جاءت من فضاءات مختلفة ولا تحمل نفس التوجهات، مثلما لا يمكن بناء مشهد ديمقراطي بدون أحزاب سياسية. إنها معركة خاسرة، فالحزب حزب والجمعية جمعية.