الجاليات الفلسطينية في أوروبا والرأي العام

الجاليات الفلسطينية في أوروبا والرأي العام

29 اغسطس 2021
تيارات اجتماعية عريضة اكتسحت أوروبا ترفض المزيد من شنّ الحروب (مارك كيرسون/Getty)
+ الخط -

يشكل الانقسام السياسي الفلسطيني واحدا من أبرز المشاكل والتحديات الماثلة أمام فلسطينيي أوروبا، في السعي نحو تفعيل دورهم الهام في سيرورة النضال الفلسطيني التحرري. ولا تقلّ آثار هذا الانقسام في ساحته الأوروبية ضررا عن تلك التي يتركها في فلسطين. تكفي محاولة حصر الأجسام والأشكال التمثيلية الموجودة كمؤسسات يفترض بها أن تمثل الجاليات الفلسطينية في القارة العجوز، ليخرج المرء بتصور أوليّ عن تأثير هذا الانقسام، وبعثرته لطاقات وجهود غالبية الفلسطينيين، ما يضعف تأثير تلك الجاليات ويحدّ من مدى انخراطها في العملية التحررية لشعبها واستقلال بلادها. شكلت الخيارات السياسية لقيادة السلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير، أعمق مسارات هذا الانقسام، بحيث كان الخروج فوق سقف "حل الدولتين" أو "عملية السلام" واتفاق أوسلو مسألة لا تتعدى "وجهة نظر شخصية" غير ذات أهمية في سياق تشكل الرأي العام المناصر لفلسطين، أو حتى المعادي لها، في أوروبا. ورغم أن تلك الخيارات السياسية وصلت إلى طريق مسدود، وباعتراف بعض من أهم أصحابها، كالرئيس الراحل ياسر عرفات أو أحمد قريع، رئيس وزراء السلطة لأكثر من مرة، إلّا أنها بقيت كزاوية يتيمة ينظر من خلالها السياسيون أو وسائل الإعلام والمراكز البحثية في الغرب عموما، وأوروبا خصوصا، في سياق الإطلالة أو التمعّن في "المسألة الفلسطينية"، إن جاز الوصف. فالآذان والعيون تلك لم تكن لتصغي أو تنظر إلى خطاب لا يردده "الفلسطينيون الرسميون"، ولا إلى خطابات أخرى غير خطابات كـ"التسوية" و"حل الدولتين" التي كتبت بمداد لم تبخل فيه أوروبا ولا غيرها، وما تبقى أساسا من تلك "التسوية" يتنفس برئة صناعية تعتمد على المساعدات الأوروبية والمنح، وإلا كانت قد انهارت هياكلها التي نتجت عنها، كالسلطة الفلسطينية، مع "عملية السور الواقي" التي شنّها الاحتلال خلال الانتفاضة الفلسطينية الثانية.

لكن هذا الانقسام والهياكل المبعثرة ليست بالعائق المستحيل تجاوزه، طبعا إذا اعتبرنا أن الانقسام هذا ناتج عن اختلاف وتناقض المشاريع، أو غياب "المشروع الوطني الموحد"، فقد أظهرت المواجهات الأخيرة والهبّات في القدس والمدن الفلسطينية واقعا مختلفا إلى حد بعيد عن "الواقع السياسي الرسمي" المتمثل ببرنامج حل الدولتين والانقسام الجغرافي بين الأراضي المحتلة في العام 1948 والأراضي المحتلة في العام 1967، وبين الضفة الغربية وقطاع غزة، وباتت ملموسة صوابية الحديث عن شعب واحد يخوض نضالا واحدا فوق أرضه الكاملة بغض النظر متى وقع الاحتلال عليها. إذن نحن لسنا فقط أمام فشل ذريع لأوهام التسوية واستحالة إقامة "دولة فلسطينية" بسبب السرطان الاستيطاني المتنامي بمفاعيل اتفاقية أوسلو، بل أمام نهوض شعبيّ قلّ نظيره في السيرورة الفلسطينية، وعودة إلى أوليّات الصراع مع الاحتلال ليشمل في أبعاده كل الشعب لأجل كل الأرض. بروز هذا الواقع وجِدّيته هو فرصة لتصويب الخطاب الفلسطيني في المهاجر الأوروبية، ليس تجاه المجتمعات التي يعيش بينها وتياراتها الفكرية والاجتماعية فحسب، بل أيضا تصويبه في التعاطي والتفاعل "بينيا"، أي بين الجاليات نفسها. فلا تبقى مساحات الحوار في ما تعلق بقضية فلسطين تدور حول أوضاع "بانتوستانات" الضفة وجدار الفصل العنصري، الحصار، الاعتقال الإداري.. إلخ. على أهمية كل هذه القضايا، بل تعود إلى جذر القصة ومبتدئها، احتلال الأرض والشعب، بصورة شاملة بغض النظر عن المراحل الزمنية أو الأوضاع القائمة لكل تجمع أو مجتمع فلسطيني تحت الاحتلال، أو في المخيمات والشتات.

لكن كيف يمكن تحقيق ذلك، ومن هو المعنيّ؟
تطل الحكومات الغربية، وغيرها، على مختلف مستوياتها الحكومية وما شابه، بشكل جيّد على حقيقة الأوضاع وتعلم تماما أسس الصراع وكيف نشأ واستمر، لذا الحديث إن دار حول "إيضاح الحقيقة" من وجهة نظر السردية الفلسطينية لا معنى له. ولكن هذا لا ينطبق على المجتمع أو القواعد الاجتماعية في غالبية البلدان الأوروبية، على العكس فإن جزءا هاما من هذه المجتمعات، والتي يمكن أن تشكل قواعد انتخابية في نظم الديمقراطيات الأوروبية، إن باتت على وعي جيّد بتاريخ وأبعاد القضية الفلسطينية، والجذور الاستعمارية لها، وبالدور الذي تلعبه ولعبته حكومات غربية عدة في قضية فلسطين. فمن خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو بعض ما تنقله وسائل الإعلام، باتت للسردية الفلسطينية مساحة أوسع وسقفا أعلى. إذ الحديث اليوم ينطلق حول جوهر "إسرائيل" ككيان قائم على التمييز العنصري، وشنّ الحروب، لا حول وجود "كيان فلسطيني" من عدمه. وبوجود الجاليات الفلسطينية في هذه الدول يمكن مخاطبة المجتمعات التي تعيش بينها بمنطق ولغة تفهمها، بخطاب سياسيّ واضح غير مجامل مباشر، يقدم الحقائق باردة كما هي أمام متلقيها، وليضعه أمام امتحان العدالة والإنسانية، لمَ لا؟ لا يحتاج المرء أن يكون مفوّها ليحكي قصة إنسانية كقصة جده اللاجئ، أو ليشرح كيف يقطع التلاميذ كل يوم كيلومترات سيرا على الأقدام كي يصلوا إلى مدارس يحول بينهم وبينها جدار الفصل.

لكن وعي هذه المجتمعات لا ينحصر بفلسطين واحتلالها، في ظل الانفتاح الإعلامي وانتقال المعلومة والصورة، بل يطل على قضايا عالمية كثيرة، ويتفاعل معها. لنأخذ مثلا قريبا في تجربة احتلال العراق في العام 2003، وكيف ظهرت تيارات اجتماعية عريضة اكتسحت أوروبا ترفض المزيد من شنّ الحروب. ولننظر إلى تداعيات الانسحاب من أفغانستان، وعودة طالبان إلى كابول، وما خسرته جيوب دافعي الضرائب وخسارة أرواح مئات الآلاف هباء. هذه المجتمعات تنظر إلى تداعيات السلوك الاستعماري والاحتلال بشكل مضارع، لكن تبقى فلسطين وقضيتها بالنسبة لكثر أكثر تعقيدا وأعلى حساسية، لأسباب تتعلق بالطبع بتاريخ اضطهاد اليهود والجرائم التي وقعت خلال الحرب العالمية الثانية، وشيوع عقدة "الشعور بالذنب" في وعي تلك المجتمعات. رغم ذلك يظل ضروريا أن تتجاوز الجاليات الانقسام، واللافعالية في مؤسساتها وهياكلها القائمة، سواء إن كانت رسمية كالسفارات أو أهلية كجمعيات الجالية هنا أو هناك، حيث يمكن عبر وسائل الإعلام البديلة والتفاعل الشخصي المباشر سدّ الفراغ القائم، ورفع السقف بالخطاب الجيّد المرتكزعلى خطاب الحرية والحقوق الإنسانية والوطنية المشروعة، لا بالصراع القائم على أسس دينية أو الكراهية العنصرية. طبعا دون الإصابة بعدوى عقدة "الشعور بالذنب" عن جرائم لم يرتكبها الفلسطينيون بحق أحد.

لنحافظ مثلا على شعار ملأ شوارع المدن الأوروبية أخيرا: "من النهر إلى البحر، ستتحرر فلسطين"، إذ ينبغي أن نلقي خلف ظهرنا ما يثير اللبس من شعارات أو هتافات ذات مضمون وأبعاد دينية، كشعار "خيبر خيبر.."، أو ما قد يضع حامل الشعار هذا في ورطة هو بغنى عنها، فهو ينحاز لفلسطين تجاوزا ورفضا للعنصرية، ثم يجد نفسه في "قفص معاداة الساميّة". قد يصحّ القول إن للصراع أبعادا دينية، ولكن من الخاطئ تماما اعتبار الدين أساس الصراع. رافع الشعار هذا، في يوم ما سيذهب ويذهب معه كثر إلى صناديق الانتخابات، في الأحزاب والبرلمانات، على الجاليات الفلسطينية أفرادا ومؤسسات متفرقة، ضمان بقاء تيار حاملي هذا الشعار وتوسّعه، ليصير عند نقطة معينة تيّارا حاسما في تعامل الحكومات الأوروبية مع القضية الفلسطينية.

على عكس أنظمة الشرق، فإن النظم الأوروبية يبدأ التغيير فيها لا من أعلى الهرم، بل من القاعدة. يحتاج الأمر أن تأخذ السردية الفلسطينية كضحية استعمار حقها من الإصغاء لا صراعا دينيا مقدسا، تقدم سيرورتها بالحجة والنكتة، بالأغنية والفيلم، بالحجر والمقاومة، عندها ستنهار جدران العقد في هذا العالم، وتُدرك فلسطين.
 

المساهمون