استمع إلى الملخص
- يمارس الاحتلال الإسرائيلي عنفًا هيكليًا يهدف لتفكيك التنظيم الاجتماعي الفلسطيني، باستخدام القانون والعنف الاقتصادي والرمزي لفرض مرجعيته، مما يضعف السلطة الذاتية للفرد الفلسطيني.
- بعد اتفاقية أوسلو، تراجعت مؤسسات المجتمع لصالح السلطة الفلسطينية، مما أدى لاحتكار التنظيم السياسي وتفكيك التنظيم الاجتماعي التقليدي، وتعزيز الانقسامات الاجتماعية والولاءات الضيقة.
بعد مرور ما يقرب الثمانية عشر شهرًا على حرب الإبادة، التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي تجاه الشعب الفلسطيني في الضفّة الغربية وقطاع غزة، ظلّ السؤال الذي يتردد كل يوم وكل ساعة حول الدور الجمعي للمجتمع الفلسطيني في الضفّة الغربية في زمن الإبادة، وعن فعالية الدور وأبرز التحديات التي يواجهها في تنظيمه، فلولا المجتمع الفلسطيني وديناميكيته، لانتهت القضية الفلسطينية منذ زمنٍ بعيد. هذا الصمود المجتمعي هو ما أوصل الاحتلال إلى قرار حسمه المتطرف تجاه المجتمع الفلسطيني، من خلال الإبادة والتهجير القسري، والضم بطريقةٍ تشابه، أو تتفوق على مثيلاتها من طرق دول الاستعمار في التاريخ الحديث.
من أهم مؤشرات ضعف التنظيم الاجتماعي الفلسطيني حالة الاستعصاء في بناء هياكل تنظيميّة فعّالة، وغياب القيادة الموحدة، والانقسامات الداخلية، وضعف إطار الحركة التحررية النظري والفكري، ما أضعف لاحقًا قدرة هذا المجتمع على تحقيق أهدافه السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
هنا؛ لا يقصد بالتنظيم الاجتماعي القدرة على تنفيذ حركات احتجاجية، رغم أنّها إحدى أوجهه، بل ما خصّ به المجتمع الفلسطيني نفسه، من خلال الروابط التشعبية لمؤسسات المجتمع الفلسطيني ونقاباته وفئاته، وتجذّرها في حركة التحرر الوطني طِوال عقدي السبعينيات والثمانينيات، وخلال الانتفاضة الثانية، والسعي إلى الاعتماد على الذات قدر الإمكان، وترسيخ هويةٍ جمعيةٍ قائمةٍ على الإيمان بالذات، والقدرة على التحرير.
بهذه الطريقة، يتجاوز العنف الهيكلي القمع المباشر ليصبح نظامًا مستدامًا يهدف إلى تفكيك أيّ محاولةٍ فلسطينيةٍ لبناء تنظيم اجتماعي مستقل
فما الذي أصاب تنظيم المجتمع الفلسطيني الاجتماعي في الضفّة الغربية؟ ولماذا تلكأت ديناميكيات تنظيمه الذاتي في زمن الإبادة؟ وهو ما أبهرنا بزمنٍ ليس ببعيدٍ في مايو/أيّار 2021، عندما أعلن هبته بمكوناته المتنوعة في أماكن وجوده، انسجامًا مع مقاومته تحت ما سُمي حينها بهبّة "سيف القدس". تنطلق الإجابة عن سؤال ماذا أصاب المجتمع الفلسطيني، من فرضية أن المجتمع الفلسطيني هو ضحية مجموعةٍ من العوامل والأسباب التي أعاقت تنظيمه الذاتي، المشهود له تاريخيًا، أبرزها هياكل العنف الإسرائيلي، وممارسات السلطة الفلسطينية.
يمثّل تنظيم الفلسطينيين الاجتماعي تحت الاحتلال الإسرائيلي نموذجًا لفهم تأثير البُنى الاستعمارية على الحراك الاجتماعي والسياسي لمجتمع واقع تحت احتلالٍ إباديٍ. هناك خطٌ رفيعٌ بين التحول في سياسات الاحتلال الإحلالية، من السيطرة على السكان المحليين، وإحلال مستوطنين مكانهم، قبل السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى إنهاء وجود الفلسطينيين من خلال التهجير والإبادة بعد السابع من أكتوبر، في كلتا المرحلتين اعتمد على عنفٍ هيكليٍ استند إلى مجموعةٍ من استراتيجيات قمعٍ ممنهجةٍ، تهدف إلى منع أي نمط من أنماط التنظيم الاجتماعي والسياسي، الذي قد يساهم في تحقيق حرية الفلسطينيين.
أثّرت مراكمة العنف الهيكلي الممارس من قبل الاحتلال على التنظيم الاجتماعي الفلسطيني، وفي أثر العنف الهيكلي الممارس على المجتمعات، نستذكر ما قاله نورمان ألكوك وجيرنوت كولر (1979): "يحدث العنف الهيكلي عندما يتسبب الفقر والمؤسسات والأنظمة والهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية غير العادلة في إيذاء الناس أو قتلهم". أو كما أشار الباحث النرويجي تورد هوفيك (1977) إلى أنّ "الهياكل الاجتماعية تقتل وتشوه الناس تمامًا كما تفعل الرصاصة والسكين".
كثيرة هي أشكال العنف الهيكلي الذي مارسه الاحتلال، إذ لا يمارس الاحتلال الإسرائيلي مجرد ممارسة قمعية مباشرة متمثلة في الاعتقال والقتل، بل هو نظامٌ مستدامٌ يهدف إلى إفشال أي تنظيم فلسطيني مستقل. تشمل هذه الهياكل المؤسسات والأنظمة القانونية والممارسات الاقتصادية التي تُديم علاقات القوّة غير المتكافئة. ويمكن فهم هذا العنف من خلال مجموعة من المستويات المترابطة، أبرزها العنف القانوني والإداري، من خلال استخدام القانون والقرارات الإدارية أداةً لضبط الفلسطينيين، والتحكم في زمانهم ومكانهم، من خلال نظام التصاريح، وعمليات الهدم، والحواجز، وأنظمة المراقبة والتحكم. يتبعه العنف الاقتصادي الذي تجلى في جعل السوق الفلسطيني تابعًا لاقتصاد الاحتلال. كما يعيد هذا النموذج إنتاج تبعية اقتصادية تشبه ما حدث في جنوب أفريقيا خلال نظام الفصل العنصري (الأبارتهايد)، حيث صُممت السياسات الاقتصادية لضمان بقاء السكان الأصليين في حالة هشاشةٍ دائمةٍ، ومنعهم من بناء اقتصادٍ مستقلٍ قادرٍ على دعم حراكٍ سياسيٍ مقاومٍ، ليس هذا فحسب، بل حوّل الثروة البشرية الفلسطينية إلى فائض قيمة يصب لصالح اقتصاد الاحتلال.
أبرز أنواع العنف الممارس هو العنف الرمزي والثقافي، من خلال سياسات إسكات المؤسسات الفلسطينية، ليفرض الاحتلال مرجعيته الأخلاقية والفكرية، واستخدام الأذى الجسدي أو التهديد بالأذى ضدّ فئاتٍ معينة، ليولّد مشاعر الدونية والعجز والمرتبة غير البشرية لدى المجتمع الفلسطيني، فيكون قادرًا على بناء أو تغيير أو هدم معطياتٍ فكرية. أسوأ نتائج العنف الرمزي الهيكلي هو فقدان الفرد الفلسطيني سلطته على ذاته، ما يدفعه إلى الاستسلام. هذا ما أشار إليه فرانز فانون في كتاب "معذبو الأرض"، فالاستعمار لم يكن مجرد احتلال عسكري، بل عملية تفكيك اجتماعي ونفسي تهدف إلى إضعاف قدرة الشعوب المستعمَرة على تنظيم نفسها.
ما ميّز العنف بعد السابع من أكتوبر2023 أنّه أتى ضمن ثلاثة محددات: الأول، مفاجئ ومتوحش ومكثف، ولم يعطِ المجتمع فرصة التعاطي معه. الثاني، أتى في سياق لا يزال المجتمع الفلسطيني فيه يرمم نفسه، من الضربات التي تلقاها من الحكومة اليمينية المتطرفة بعد سيف القدس عام 2021، وزيادة هيمنته على الحيز المكاني لوحدة الاتصال الفلسطيني، من خلال الحواجز والجدار والمستوطنات. الثالث، تراجع الفواعل المنظمة للحقل السياسي مثل الفصائل، نتيجة الضربات الأمنية المتلاحقة من الاحتلال والسلطة، وعدم ملء الفراغ الناتج عن غياب الفصائل.
يمثّل تنظيم الفلسطينيين الاجتماعي تحت الاحتلال الإسرائيلي نموذجًا لفهم تأثير البُنى الاستعمارية على الحراك الاجتماعي والسياسي لمجتمع واقع تحت احتلالٍ إباديٍ
بهذه الطريقة، يتجاوز العنف الهيكلي القمع المباشر ليصبح نظامًا مستدامًا يهدف إلى تفكيك أيّ محاولةٍ فلسطينيةٍ لبناء تنظيم اجتماعي مستقل. لكن، كما أظهرت تجارب التحرر العالمية، وتجارب الفلسطينيين أنفسهم، فإن الوعي بهذه الديناميكيات يمثّل الخطوة الأولى نحو تطوير إستراتيجيات مقاومة فعالة.
المركب الثاني؛ المساهم في إضعاف التنظيم الاجتماعي هو السلطة الفلسطينية ونخبتها، إذ إنّ التطور المركزي الذي أثر على التنظيم الاجتماعي بدأ بعد أوسلو، بسبب انسحاب العديد من مؤسسات المجتمع من التنظيم السياسي لصالح السلطة، والتوجه نحو الأعمال المهنية الوسيطة، كالتوسط بين المركز الأوروبي والمجتمع الفلسطيني، حال معظم مؤسسات المجتمع المدني، أو التوسط بين السلطة والمجتمع الفلسطيني، حال معظم النقابات. واحتكرت السلطة والفصائل الفلسطينية التنظيم السياسي، وفي ما بعد أدى الانقسام السياسي وما تبعه من آثار متراكمة إلى إضعاف المجتمع وتماسكه.
ساهم التحول في أدوار السلطة في مضاعفات عدم التنظيم الاجتماعي، فبعيدًا عن اتّفاقية أوسلو التي أخضعت الفلسطينيين أمنيًا واقتصاديًا للاحتلال، والتي ما زالت السلطة ملتزمة بتنفيذ بنودها، رغم تهشيم الاتّفاق من قبل الاحتلال، إلّا أّن الموضوع لا يتعلق بهذين البندين إنّما بأبعادٍ أخرى، هي احتكار الهيمنة على المؤسسات التمثيلية الفلسطينية، وتعطيل أعمالها، وإعطاب فاعليتها في تنظيم الفلسطينيين، وتعطيل النظام الفلسطيني نفسه. فلا يوجد استراتيجية واضحة تقدمها السلطة للفلسطينيين، ما جعلها متخبطة. ولو سُئِلَت القيادات البارزة في السلطة الفلسطينية ما هي خطتكم لإقامة الدولة؟ أو التحرر؟ أو ما هو التحرر الذي تتصورونه؟ أو كيف ستقاومون حرب الإبادة؟ وكيف ستتعاملون مع خطة الضم والحسم؟ فلن تجد جوابًا واضحًا ملموسًا قابلًا للتنفيذ، يُجمِع عليه الفلسطينيّون.
نشأت بعد أوسلو نخبة فلسطينية متنفّذة ومتجذّرة في نظام الهيمنة على الفلسطينيين، وزادت سلطتها ونفوذها شيئًا فشيئًا، تكيفت وتكاثرت مع كلّ أمر مستجد من قبل الاحتلال، وذلك من خلال تحقيق الهيمنة المتزايدة على المجتمع الفلسطيني، وتعزيز شبكاتها الاقتصادية التي ضمنت لها مراكمة الأرباح والثروات.
لضمان هيمنتها على المجتمع الفلسطيني استهدفت الهياكل الاجتماعية، من خلال التمييز الاجتماعي والتفاوت الطبقي. أدت هذه السياسات إلى تفكيك التنظيم الاجتماعي التقليدي، وشبكات أمانه الاقتصادية والاجتماعية، ما خلق انقساماتٍ اجتماعية أعمق، وأدى إلى عزل بعض الفئات الاجتماعية عن بقية المجتمع. شمل العنف الهيكلي حرمان المجتمع من المشاركة في الفعل السياسي، ما جعل من الصعب عليها تنظيم نفسه بفعالية ضدّ الاحتلال. فعندما تُدفع فئاتٌ معينةٌ إلى هامش المجتمع، فهي غالبًا ما تُستبعد من المشاركة السياسية والاقتصادية والاجتماعية.
استلاب قرار حركة فتح وإرادتها كان أبرز ما قامت به نخبة السلطة الفلسطينية، إما من خلال الإغراء بالضم لشبكة المصالح والنفوذ، ومن يرفض يكون مصيره التهميش والإقصاء والإسكات. كما قامت السلطة بقمع وممارسة العنف تجاه كلّ الفصائل والأفراد، الذين اعتمدوا الكفاح المسلح تجاه الاحتلال، أو الذين اتجهوا إلى تنظيم فعل جمعي تجاه الاحتلال، خصوصًا بعد السابع من أكتوبر. أعادت هذه السياسات إنتاج الهياكل الاستعمارية، ونقلتها من مستوى الماكرو في التعاطي مع البنى الهيكلية الفلسطينية، إلى مستوى المايكرو في التعاطي مع البنى الهيكلية، كآليات القمع المتنوعة، وآليات الإقصاء اليومية تجاه الأفراد والجماعات، وتفتيت التضامن المجتمعي، عبر تشجيع الولاءات العائلية، أو الحزبية الضيقة، وتأجيج الانقسامات والمشاحنات الداخلية.
أبرز أنواع العنف الممارس هو العنف الرمزي والثقافي، من خلال سياسات إسكات المؤسسات الفلسطينية، ليفرض الاحتلال مرجعيته الأخلاقية والفكرية
في الختام، لا تنحصر أهمّية إعادة التنظيم الاجتماعي بمواجهة خطط الاحتلال فقط، إنّما لقطع الطريق على الاحتلال في الدفع نحو الانهيار، وخلق فراغٍ قياديٍ، واستبدال القيادات الوطنية الفلسطينية بقياداتٍ تتبع للاحتلال. هدف التنظيم الاجتماعي ملء الفراغ كي لا تشغله الميليشيات الكمبرادورية، وأمراء الكانتونات. يواجه الفلسطينيون تحدياتٍ كبرى في الحفاظ على تنظيمهم الاجتماعي في ظلّ الاحتلال، ولا أبالغ إنّ قلت أنّ التنظيم الاجتماعي هو النقطة المفصلية التي ستحدد نجاح الاحتلال في خططه أم لا، هذا يتطلب من فئات المجتمع المتنوعة إعادة الاعتبار للفعل الجمعي والتأطير له، وتفعيل دور الحركات الشعبية، وتطوير استراتيجيات مقاومة طويلة الأمد، تضمن استمرارية النضال ضدّ المشروع الاستعماري، وتحافظ على الهوية الفلسطينية رغم كلّ محاولات الطمس والتفكيك.
من خصائص المجتمع الفلسطيني الثابتة، التي يمكن استنباطها من خلال دراسة تاريخ نضاله، أنّه لا يهدأ إلّا في إطار محاولة امتصاصه الصدمات، وخلق ديناميكيات جديدة تتعاطى مع ما يُستجد، هذا ما كان خلال الانتفاضات والثورات منذ الانتداب البريطاني ولغاية الآن.