التخريب يتمدد في تونس: سعيّد يستكمل انقلابه على النظام السياسي

التخريب يتمدد في تونس: سعيّد يستكمل انقلابه على النظام السياسي

15 ديسمبر 2021
يتوسع الحراك الشعبي الرافض لقرارات سعيّد (Getty)
+ الخط -

وسّع الرئيس التونسي قيس سعيّد من التخريب الذي يمارسه بحق النظام السياسي في البلاد ودستور العام 2014، عبر حزمة جديدة من القرارات التي قال إنها تأتي لتصحيح مسار الثورة والتاريخ، مستغلاً المناكفات الحزبية وصراعات التموقع، والفشل الاقتصادي والاجتماعي الذي نفّر التونسيين ودفعهم للبحث عن بديل.

ويقوم المسار الذي يريده سعيّد على رؤيته الخاصة وتصوّره للنظام السياسي، من دون الاعتراف بالديمقراطية التمثيلية، مع الترويج لـ"نظام قاعدي" ينطلق من المحلي إلى الجهوي إلى المركزي، لا يعرف تفاصيله إلا سعيّد وبعض مناصريه، وأعد له بعناية منذ فترة.

وبعدما استبشر البعض بالدعوة إلى الوحدة التي أطلقها سعيّد في اجتماعه بمجلس الأمن القومي قبل أيام، جاءت قرارات سعيّد مساء الإثنين استكمالاً لمشروعه الذي بدأه في 25 يوليو/تموز الماضي بتجميد البرلمان وحل الحكومة، ثم أردفه في 22 سبتمبر/أيلول بالمرسوم رقم 117 الذي جمع به كل السلطات التشريعية والتنفيذية بين يديه.

حزمة جديدة من القرارات يطلقها سعيّد

وفي خطاب وجهه للتونسيين مساء الإثنين، أعلن سعيّد تنظيم انتخابات تشريعية وفق قوانين انتخابية جديدة في 17 ديسمبر/كانون الأول 2022، مع إبقاء المجلس النيابي مجمّداً أو معلقاً (بحسب تعبيره) إلى تاريخ تنظيم الانتخابات. كما قرر تنظيم استشارة شعبية (استطلاعات رأي) بداية من الأول من يناير/كانون الثاني 2022، والإعداد لمنصات إلكترونية لإجراء هذه الاستشارات وبلورة أسئلة واضحة ومختصرة، وكذلك تنظيم استشارات مباشرة بكل معتمدية على أن تنتهي هذه الاستشارة في 20 مارس/آذار من العام 2022، وهو التاريخ الذي يصادف عيد الاستقلال أو العيد الوطني في تونس.

لم يحل سعيّد البرلمان لتجنب إجراء انتخابات خلال 90 يوماً

وقال سعيّد إن لجنة سيتم تحديد أعضائها وتنظيم اختصاصها، ستتولى الجمع بين مختلف المقترحات على أن تُنهي أعمالها قبل نهاية يونيو/حزيران 2022. وأضاف أنه سيتم عرض مشاريع الإصلاحات الدستورية على الاستفتاء يوم 25 يوليو 2022 (أي بذكرى عام على انقلابه على تدابيره الاستثنائية) مع الانطلاق في إصلاحات قانون تنظيم الانتخابات والإشراف عليها.

كما أعلن أنه سيضع مرسوماً خاصاً يتعلق بالصلح الجزائي (مع رجال الأعمال المطالبين بإعادة أموال للدولة عقب الثورة)، بالإضافة إلى محاكمة كل الذين أجرموا في حق الدولة التونسية وشعبها، بحسب قوله. وقال إن ما كان يحدث لم يعد مقبولاً وصار الخطر داهماً، ما دفعه إلى اتخاذ إجراءات 25 يوليو بمفرده، وفق قوله.

فسحة سعيّد تمتد لنحو عام

وبهذه القرارات، يمنح سعيّد نفسه فسحة تمتد لنحو عام ليثبّت أركان حكمه، ويحجم دور معارضيه، ويخفف خصوصاً من وطأة الضغوط الدولية، التي تطالبه بخريطة طريق والعودة إلى برلمان منتخب والحفاظ على الحريات كشرط أساسي لمواصلة دعم البلاد اقتصادياً، في ظروفها الصعبة الحالية التي يمكن وحدها أن تطيح بأي حكومة، وهو بهذا قد يقنع البعض من المانحين بالخريطة الشكلية التي أعلن عنها.

ولكن سعيّد تجاهل شرطاً مهماً من بين المطالب الداخلية والخارجية، وهو أن يتم ذلك بشكل تشاركي واسع مع كل الفرقاء، إذ ألغى في خطابه كل الطبقة السياسية التونسية، أحزاباً ومنظمات وطنية عريقة وشخصيات ومفكرين، وأراد أن يستفرد ليس بالسلطة وحدها وإنما بالتفكير أيضاً، وأقصى كامل المشهد من إمكانية الإسهام في تصور مستقبل البلاد ودستورها ونظامها السياسي الممكن.

كما أن الرئيس التونسي بدا وكأنه يستبق معارضيه ورافضي الانقلاب، الذين يتهيؤون لاحتجاجات في 17 ديسمبر/كانون الأول المقبل، في ظل توسّع عددهم ونشاطهم بشكل كبير في الآونة الأخيرة، داخلياً وخارجياً، ويضيّقون عليه الخناق، وكأنه يضع كل ثقله في محاولة أخيرة دفاعاً عن مخططه.

وهاجم سعيّد في خطابه الجميع من دون استثناء، معتبراً "من صفّق لإجراءات 25 يوليو ولم ينل حظه، صار يندد بها، وهناك من جاءته أموال من الخارج لينقلب على عقبيه ويدعو للرجوع إلى الوراء". وأردف "لن نعود إلى الوراء أبداً، فهؤلاء لا قيمة ولا مبدأ لهم، كانوا يتوقعون أنني سأوزع الحقائب، لكن ذلك لم يحصل، فتحوّلوا إلى معارضين لما سموه بالانقلاب وينددون بالحد من الحريات".

وبشكل مفاجئ، هاجم سعيّد أيضاً اتحاد الشغل التونسي، وإعلان الأمين العام للمنظمة النقابية، نور الدين الطبوبي، خلال كلمته منذ أيام أن المنظمة اختارت المضي في "خيار ثالث" مغاير لما قبل 25 يوليو ولما بعده، على الرغم من تأييده للقرارات. وقال سعيّد بنبرة فيها بعض الاستهزاء "صار الحديث متواتراً عن صف ثالث، إذا أرادوا فليزيدوا صفاً رابعاً أو خامساً"، مضيفاً "الصف الوحيد الذي أنتمي إليه هو صف الشعب وليس الاصطفاف مع من يريدون صناعة الصفوف ثم بعد ذلك الاصطفاف".

واللافت في قرارات سعيّد أنه لم يحل البرلمان، لأن ذلك سيدفع إلى انتخابات خلال تسعين يوماً كما ينص الدستور. ولم يلغ الدستور كما كان يهدد، بسبب موجة الرفض الواسعة وإمكانية خروجه عن الشرعية، ولم يحل المجلس الأعلى القضاء، بسبب الاستماتة غير المسبوقة للقضاة في الدفاع عن مكاسبهم، ولكنه دعا إلى انتخابات تشريعية فقط، وفق رؤيته الخاصة، وليس انتخابات رئاسية أيضاً، على الرغم من أن نظاماً سياسياً جديداً يفترض انتخابات جديدة شاملة. وستتأسس هذه الانتخابات على مسار وضعه سعيّد بعناية وأخفى فيه الكثير من التفاصيل المهمة.

والأخطر أنه سيذهب في مشروعه القائم على استشارات شعبية في المعتمديات (مدن كبيرة) بما يشبه الحملة الانتخابية والتفسيرية الجديدة، ولكنه لم يوضح من سيضع موضوع وتفاصيل هذه الاستشارة.

واللافت أنه وجّه رسالة أخرى مفادها محاكمة الذين أذنبوا في حق البلاد ومحاسبة رجال الأعمال واسترجاع الأموال، ودعا القضاء لاستعجال النظر في المخالفات الانتخابية واتخاذ ما يترتب عنها، أي حل بعض الأحزاب وحتى السجن، قائلاً بوضوح "من يتصور أنه فوق المحاسبة فهو واهم"، وهو ما يعني أن البلاد قد تدخل متاهات تصفية الحسابات وضرب المعارضين، خصوصاً أنه يمسك بكل الخيوط والسلطات وكل قراراته غير قابلة لا للطعن ولا للمراقبة.

تعويل على الزخم الشعبي وتشتت المعارض

ويعوّل سعيّد على مسألتين هامتين في مشروعه، أولهما الزخم الشعبي الذي يطالب بالتغيير منذ سنوات بسبب الإخفاقات المعروفة. ولكن هذا الالتفاف وإن كان صحيحاً منذ انتخاب سعيّد وحتى مع الإجراءات التي اتخذها في 25 يوليو الماضي، فإنه يتآكل ويتراجع، مع توضح مشروع سعيّد للتونسيين ومع إخفاقه هو أيضاً في المجال الاقتصادي بحكم تدهور كل المؤشرات في الأشهر الأربعة الأخيرة.

وقال مدير عام مؤسسة "سغما كونساي" لسبر الآراء، حسن الزرقوني، في تصريح أمس الثلاثاء، إنّه منذ 25 يوليو، كان قرابة التسعين في المائة من التونسيين متفقين مع قرارات رئيس الجمهورية آنذاك، ومنسوب التفاؤل لدى التونسيين ارتفع حينها إلى 92 في المائة.

تراجعت نسبة التفاؤل لدى التونسيين إلى 46 في المائة

وتابع الزرقوني أنّ نسبة التفاؤل لدى التونسيين بعدها شهدت انخفاضاً شهرياً، ووصلت في حدود شهر نوفمبر/تشرين الثاني الماضي إلى 46 في المائة، في حين لا يرى الباقون أنّ تونس تسير في الطريق الصحيح، بسبب غياب الرؤية. وأضاف أنّ خلق فرص عمل وتحسين ظروف العيش والقدرة الشرائية في صدارة أولويات التونسيين، مبرزاً أنّ الشأن الاقتصادي والاجتماعي عادا بقوة على طاولة المطالب. وأشار إلى أنّ الشباب من الفئة العمرية بين 18 و25 سنة الذين أدلوا بأصواتهم في نوفمبر 2019 لصالح قيس سعيّد بقوة، هم أكثر فئة متشائمة في تونس، إذ بلغت نسبة التشاؤم لديهم 68 في المائة.

أما المسألة الثانية التي يعوّل سعيّد عليها، فهي تشتت المعارضة التونسية وعجزها على التوحد حول أي مقترح. لكن معارضي الانقلاب وقرارات الرئيس يتحضرون إلى حراك احتجاجي في 17 ديسمبر المقبل، وهو ما سيشكل تعبيراً من الشارع التونسي عن رأيه.

وقوبلت قرارات الرئيس التونسي باعتراضات واسعة. وأكدت أحزاب تنتمي للعائلة الاجتماعية الديمقراطية، أمس الثلاثاء، أنه سيتم التصدي للإجراءات المعلنة من قبل سعيّد، وتشكيل قوة ضغط لتصحيح المسار والعودة إلى دستور 2014 .وجاء هذا الرد في مؤتمر صحافي رفضاً للقرارات التي أعلن عنها سعيّد، مؤكدين أنه سيتم يوم 17 ديسمبر النزول للشارع ضمن حراك شعبي للدفاع عن الديمقراطية المهددة.

وأكد الأمين العام للحزب الجمهوري، عصام الشابي، أنه لا مجال لحكم الفرد ولا خيار سوى العودة الحقيقية للسيادة الشعبية وذلك من خلال انتخابات تشريعية ورئاسية، مبيناً أن الرئيس استثنى نفسه من الانتخابات في حين يجب أن يكون مشمولاً بها، مضيفاً أنه لم تبق للرئيس من الشرعية أي شيء. وقال الشابي "نمد أيدينا لكل القوى لتوحيد الجهود وللخروج من هذا المسار الخطير، فالأزمة طالت أكثر من اللازم ولا بد من حكومة إنقاذ والتركيز على الملف الاقتصادي والاجتماعي وهو ما غاب في خطاب سعيّد". وتابع: "لن نبقى في موقف المتفرج وستكون أيدينا ممدودة لمنظمات المجتمع المدني".

من جهته، قال الأمين العام للتيار الديمقراطي، غازي الشواشي، إن سعيّد استغل الوضع المتردي من أجل الانقلاب على الدستور واستغل غياب المحكمة الدستورية في اتجاه تأويل اختياره وفرضه، معتبراً أن الرئيس أغلق جميع الأبواب وتمادى في تكريس الحكم الفردي.

وأضاف الشواشي في تصريح لـ"العربي الجديد" أن سعيّد يعتقد أنه بوضع جدول زمني لانتخابات تشريعية يمكن الخروج من الأزمة في حين أن في هذا تعميق للأزمة، معتبراً أن الرئيس يريد فرض الأمر الواقع، وكل التواريخ والقرارات المعلنة هي خارج الدستور، مشيراً إلى أنها مجرد محاولات لتمديد فترة الحكم الفردي بالاستحواذ على السلطات.

من جهته، قال المستشار السياسي لرئيس حركة "النهضة"، رياض الشعيبي، إن "رئيس الجمهورية لا يزال يعمل خارج الشرعية الدستورية وبمعزل عنها، وتماديه في وضع خريطة للمرحلة المقبلة من دون استشارة الفاعلين السياسيين بما في ذلك مجلس النواب يعتبر خطوة أحادية ولا تلزم سواه". وأضاف في تصريح لوكالة "الأناضول": "سنستمر في تصدينا للانقلاب ضمن تنسيق سياسي ومدني واسع ندعو له كل الأطراف التي نتقاطع معها في هذه الرؤية ونثبت مطالبنا في استئناف المسار الديمقراطي وقطع الطريق على الحكم الفردي المطلق، كما ننبه للمخاطر الاقتصادية والاجتماعية على استقرار الشعب التونسي وعلى قدرة مؤسسات الدولة على الايفاء بالتزاماتها الداخلية والخارجية".

جوهر بن مبارك: الإجراءات المعلنة تمادٍ في الانقلاب

أما عضو مبادرة مواطنون ضد الانقلاب، جوهر بن مبارك، فاعتبر أن خطاب سعيّد هو عودة للخطاب المتشنج، ومنطق التخوين والتقسيم، مبيناً في فيديو بث على صفحة المبادرة، أن الإجراءات المعلنة تمادٍ في الانقلاب. ورأى أن سعيّد لا يتحاور إلا مع نفسه وسيختار لجنة سيعيّن أعضاءها، والأخطر أن ترحيل موعد الانتخابات يعني أن تعيش تونس إلى ديسمبر 2022 في ظل الإجراءات الاستثنائية، وفي وضع اللاقانون.

ويذهب سعيّد في مشروعه لوحده، يخطط ويرسم ويقترح ويتوجه إلى الشعب وحده، ويرفض الحوار مع أي كان، إلا مع الذين يوافقون مشروعه، ويتوهمون الاستفادة من ضرب معارضيهم على يديه، سياسياً أو أيديولوجياً. وهو لم يخالف نظرته للأحزاب منذ سنوات، وقد سبق أن أكد مراراً أنه يؤمن بالبناء القاعدي الذي ينطلق من المحلي نحو المركز، وأن عهد الأحزاب قد انتهى.

وقال في حوار منذ سنوات لموقع الشارع المغاربي إن "الشعب صار يتنظم بطريقة جديدة، انظروا ماذا يحدث في فرنسا بالسترات الصفراء وفي الجزائر والسودان، الأحزاب مآلها الاندثار، مرحلة وانتهت في التاريخ". وأضاف "لا يمكن أن أبيع الوهم، الأحزاب ماذا تعني؟ جاءت في وقت معين من تاريخ البشرية وبلغت أوجها في القرن الـ19 ثم في القرن 20 ثم صارت بعد الثورة التي وصلت على مستوى وسائل التواصل والتكنولوجيات الحديثة أحزاباً على هامش الدنيا في حالة احتضار، ربما يطول الاحتضار لكن بالتأكيد بعد سنوات قليلة سينتهي دورها".

وبشأن النظام السياسي، كان سعيّد واضحاً كذلك إذ انتقد نظام الحكم البرلماني، معتبراً في تصريح أنه السبب في بلوغ البلاد هذا الحدّ من الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحادة. وقال سعيّد خلال لقائه تونسيين في ولاية قابس جنوب تونس، وهو رئيس، إن نظام الحكم في تونس "لو كان رئاسياً، لما آلت الأوضاع إلى هذا المستوى من الخراب والدمار".

ولم يكن الوحيد في هذا الرأي، فقد سبقه إلى ذلك سلفه الراحل الباجي قائد السبسي، الذي وصف النظام السياسي في تونس بـ"الهجين والشاذ"، داعياً إلى إعادة النظر فيه لعدم قابليته على الاستمرار بهذا الشكل. ولكن السبسي، على عكس سعيّد، كان يريد "فصلاً بين المؤسسات والسلطات لا يعطل مسارات العمل الحكومي والتنموي"، داعياً إلى "دعم العمل الرقابي الذي يمارسه البرلمان وتوسيع الرقابة على العمل الحكومي والتنفيذي والتشريعي لتشمل الهيئات المستقلة وحتى منظمات المجتمع المدني، على أن يتم ذلك في إطار ضوابط قانونية وأخلاقية وسياسية معقولة".