الانتفاضة الفلسطينيّة الثالثة ولعنة "السلطة"

الانتفاضة الفلسطينيّة الثالثة ولعنة "السلطة"

30 مايو 2021
تعمل إسرائيل على تهويد الشيخ جراح منذ السبعينيات (مصطفى الخاروف/الأناضول)
+ الخط -

أعادت الانتفاضة الفلسطينيّة الثالثة القضيّة الفلسطينيّة إلى سياقها الطبيعي، انطلاقا من التناقض التناحري مع الوجود المحض لما يسمّى بـ "دولة إسرائيل". الانخراط الكامل لمدن الداخل المحتلّ منذ العام 1948 في النضال المستمرّ يعكس الأهميّة الخاصّة لهذه المقاومة الشعبيّة، التي تعيد الاعتبار لماهيّة المشروع النضالي المتمثّلة بتحرير كامل التراب الفلسطيني، من البحر إلى النهر.

هذه الانتفاضة التي أعادت الاعتبار لوحدة الأرض والشعب والهويّة، في إطار ينسف وهم "الحلّ المرحلي"، ويسلّط الضوء على حقيقة تاريخيّة، مفادها أنّه لا يمكن حلّ القضيّة الفلسطينيّة دون تفكيك كيان الاحتلال، تتناقض في جوهرها مع البرنامج السياسي لسلطة رام الله، التي تبلور مشروعها المنطلق ممّا يسمّى بالنقاط العشر في اتفاقيّات أوسلو، وما تبعها من التزامات ورهانات، بل وارتباطات بالاحتلال، حيث إن وجود هذه السلطة ككيان برجوازيّ بات مرتبطا جوهريّا ببقاء الاحتلال ضمن مشروع "حلّ الدولتين".

في الخندق المناقض تماما لمشروع سلطة رام الله ينتفض الشعب الفلسطيني الذي يواجه عصابات المستوطنين وجيش الاحتلال، ليعلن اليوم مجدّدا موقفه الحاسم، الذي لا يقبل المساومة، والقادر على التصدّي لكافّة المؤامرات الإقليميّة والدوليّة، التي تقودها الإمبرياليّة المتحالفة مع الرجعيّة النفطيّة، منذ إعلان ما يسمّى بصفقة القرن.. العدوّ الصهيوني الذي تمادى في محاولاته لتهويد القدس، وضمّ الضفّة الغربيّة، يظهر اليوم مرتبكا في محاولاته لاستعادة السيطرة على المدن الواقعة خلف "الخطّ الأخضر"!

مسألة أخرى لا بدّ من أخذها بعين الاعتبار، هي أن المقاومة الشعبيّة التي بدأت تتّخذ شكل الانتفاضة في فلسطين المحتلّة، حقّقت _كما كان متوقّعا_ التفافا جماهيريّا عربيّا وإقليميّا، حيث اندلعت تظاهرات التضامن في الأردن ولبنان واليمن، الرازح تحت وطأة أبشع حروب هذا الزمن، وغيرها من بلدان الربيع العربي التوّاقة للحريّة، والتي أكّدت شعوبها مجدّدا على أن بوصلتها لا تحيد عن القدس.. ناهيك بالتضامن الشعبي الأممي الواسع، الذي أعاد تسليط الضوء على القضيّة الفلسطينيّة، باعتبارها قضيّة مقاومة مشروعة، في مواجهة احتلال عنصريّ يستند عقائديّا إلى نهج التطهير العرقي المستمرّ.

على أيّة حال.. الشعب الفلسطيني مدرك تماما، على عكس غالبيّة القيادات المهترئة، للحقيقة الجوهريّة التي تجلّت منذ بدء النكبة المستمرّة، والمتمثّلة بالعقيدة الصهيونيّة المستندة إلى مبدأ احتلال المزيد من الأراضي، وطرد سكّانها لجلب المزيد من المستوطنين الجدد، في سياق لعنة سرطانيّة يراد لها أن تكون "باقية وتتمدّد".. بعبارة أخرى، فإن مجرّد التفكير في وجود إمكانيّة محتملة لما يسمّى بـ "حلّ الدولتين" هو محض عبث عدميّ.

في هذا السياق، لا بدّ من التأكيد على أن الوجود المحض لسلطة رام الله كان ومازال حجر عثرة أمام المشروع النضالي الفلسطيني.. واليوم تهدّد ممارسات هذه السلطة تطوّر الانتفاضة في الضفّة الغربيّة المحتلّة، بل وتنذر باستثمار ما أنجزته المقاومة الشعبيّة حتّى الآن في صفقات إقليميّة ودوليّة لا تخدم سوى المصالح البرجوازيّة الضيّقة للطبقة المتاجرة بالقضيّة، والتي باتت منحازة تماما إلى المشروع الصهيوني عبر إصرارها المتعنّت على سياسة التنسيق الأمني مع الاحتلال.

تفكيك سلطة أوسلو أصبح اليوم مطلباً وطنيّا ملحّا، يستوجب النضال الشعبي المستمرّ، باعتبار أنها باتت عائقا حقيقيّا أمام مشروع تحرير فلسطين وهزيمة الصهيونيّة. محاولات تحييد الضفّة الغربيّة عن المشاركة في هذه الانتفاضة، التي لايزال صداها يتردّد عربيّا وأمميّا، مسألة لا يمكن تجاهلها في ظلّ وجود هذه السلطة، التي لن تدّخر جهدا لاسترضاء حلفائها الدوليّين، الضامنين الوحيدين لشرعيّتها المصطنعة.. لذا من الخطيئة تصنيفها ككيان وطني، أو اعتبارها مصطفّة في خندق الشعب الفلسطيني.

في ضوء هذا الواقع، فإن طلائع المقاومة الشعبيّة إلى جانب فصائل المقاومة المسلّحة تتحمّل مسؤوليّة تاريخيّة، تتمثّل بضرورة دعم استمرار الانتفاضة الشعبيّة، وتطويرها في الضفّة الغربيّة على وجه الخصوص، بعيدا عن أيّة محاولة لاستثمارها في تسويات سياسيّة مستقبليّة مهما كانت الضغوط أو المبرّرات.. الرهان الحقيقيّ يبقى معقودا على الشارع الفلسطيني، الذي _وإن هدأ يوما_ سيبقى في حالة غليان مستمرّة حتّى تحرير فلسطين.. كلّ فلسطين.