الانتخابات المغربية: نهاية التعايش بين القصر والإسلاميين

الانتخابات المغربية: نهاية التعايش بين القصر والإسلاميين

10 سبتمبر 2021
تشكل الانتخابات محطة هامة لثلاثة أسباب (جلال مرشدي/الأناضول)
+ الخط -

ليس حزب "العدالة والتنمية" وحده من فوجئ بنتائج الانتخابات التشريعية في المغرب، والتي أسقطته من الترتيب الأول إلى الثامن، بخسارة 112 مقعداً في البرلمان المكون من 395 نائباً. وعلى الرغم من أن الأجواء كانت مهيأة لخسارة الحزب الإسلامي الذي قاد الحكومة لدورتين تشريعيتين (2011-2016 و2017-2021)، فإنه لم يكن في حساب حتى الأكثر تشاؤماً، أن تكون الهزيمة فادحة إلى هذا الحد، لتخرج الإسلاميين ليس من دائرة السلطة فحسب، بل من الحياة السياسية أيضاً، لأن حصولهم على 13 مقعداً لن يخولهم حتى تشكيل كتلة برلمانية (20 نائباً). وهذا أمر كان له وقع الصدمة في الشارع المغربي صباح الخميس الماضي عندما تم الإعلان عن النتائج.

يمكن تفسير صعود "الأحرار" إلى المرتبة الأولى بالدعم الكبير الذي لقيه أخنوش من الدوائر الرسمية

هزيمة "العدالة والتنمية" قابلتها مفاجأة أخرى هي ترتيب "التجمع الوطني للأحرار"، الذي جاء في الصدارة بحصوله على 102 مقعدين، في الوقت الذي كانت قد تراجعت في العقدين الأخيرين مكانة هذا الحزب، الذي كان المغاربة يطلقون عليه اسم "الحزب الإداري"، لأنه عاش في كنف القصر الملكي، منذ أن أسسه أحمد عصمان، صهر الملك الراحل الحسن الثاني، في العام 1977، ويتزعمه حالياً رجل الأعمال عزيز أخنوش، الذي قاد حملته الانتخابية تحت شعار إسقاط "العدالة والتنمية". وقبل يومين من توجه الناخبين إلى صناديق الاقتراع الأربعاء الماضي، خرجت صحيفة "التايمز" البريطانية، بعنوان لافت: "عزيز أخنوش: رجل الملك الذي يهدف إلى الإطاحة بالإسلاميين في المغرب".
وتشكل الانتخابات، وهي الخامسة في عهد الملك محمد السادس، الذي اعتلى العرش في صيف 1999، محطة هامة لثلاثة أسباب. الأول هو خسارة حزب الحركة الإسلامية. وهي خسارة تعيد إلى الأذهان ما تعرض له حزب الاتحاد الاشتراكي المغربي، الذي كان يشكل القوة السياسية الأولى في البلاد، حتى قبل زعيمه التاريخي عبد الرحمن اليوسفي قيادة "مرحلة التناوب" التي كلفه بها الحسن الثاني في العام 1998. وجاء هذا الحزب في المرتبة الأولى في انتخابات 2002، ثم بدأ رصيده يتراجع، وهناك إجماع في الأوساط المغربية على أن قرار "الاتحاد الاشتراكي" مغادرة المعارضة والدخول في تجربة الحكم، وجه ضربة كبيرة للحزب عرضته إلى عدة انشقاقات، وتراجع رصيده الشعبي، الذي انعكس في صناديق الاقتراع في انتخابات 2007.
والسبب الثاني هو، صعود "الأحرار" إلى المرتبة الأولى، بعد أن كاد هذا الحزب، الذي يوصف بـ"حزب القصر"، يصبح هامشياً، إذ تعرض إلى انقسامات عدة خلال العقد الأخير. ويمكن تفسير الأمر من خلال الدعم الكبير الذي لقيه أخنوش من الدوائر الرسمية، بوصفه الحصان الذي يراهن عليه في المرحلة المقبلة، التي يبدو أن القصر يريدها أن تبتعد عن أي صبغة سياسية حزبية، بعد أن جرب المغاربة طيلة عقدين حكم الاشتراكيين والوسط والإسلاميين.

أما السبب الثالث فهو نسبة المشاركة التي تعدت عتبة الـ 50 في المائة، وهذا تقدم مهم بالمقارنة مع الدورتين السابقتين. ففي انتخابات 2011 كانت نسبة المشاركة 37 في المائة، وفاز حزب "العدالة والتنمية" بـ107 مقاعد، ما جعله أكبر صاحب حصة تمثيل برلماني، على الرغم من أنه لم يشكل الأغلبية. وجعل هذا التقدم، وفقاً للدستور الجديد، زعيمه السابق عبد الإله بنكيران، رئيس الوزراء المكلف. وفي انتخابات 2016 كانت نسبة المشاركة 42.5 في المائة، وحل "العدالة والتنمية" في الصدارة أيضاً، حين فاز بـ125 مقعداً، أي نسبة 32 في المائة، وزاد رصيده البرلماني بـ 18 نائباً. وفسر مراقبون هذا الأمر بأنه يعود إلى نجاح بنكيران في إدارة لعبة الحكم، التي كانت عبارة عن مناورة تقوم على قدم في السلطة وأخرى في المعارضة، وهذا هو سبب "البلوكاج" (الاستعصاء) الذي واجهه حين حاول تشكيل الحكومة الثانية في 2017. وكان الحل وقتها بتكليف سعد الدين العثماني، الذي يحملونه اليوم مسؤولية فشل الحزب في صناديق الاقتراع. وهم يعزون ذلك إلى أسباب عدة ، منها أداء الحكومة الاقتصادي خلال فترة استشراء وباء كورونا، والذي أضر بالشرائح المتدنية في سلم الدخل. وثمة من يسجل على العثماني مصادقة حكومته على استخدام القنب الهندي لأسباب طبية وصناعية، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل في ديسمبر/كانون الأول الماضي.
وبالتالي فإن أكثرية الناخبين التي أوصلت "العدالة والتنمية" إلى المرتبة الأولى في الدورتين السابقتين انفضت من حوله. وتفيد تقديرات حزبية مغربية بأن الحزب خسر الشباب المتعلم الذي صوت له في الدورتين السابقتين، بسبب مسألة التطبيع. وهناك رأي عام واسع يقول إن القصر الملكي استخدم "العدالة والتنمية" من أجل هذه المهمة التي تحظى برفض مغربي واسع، في حين أن الحزب يبرر المسألة على أنها خيار الدولة، وليس قراره كحزب يقود حكومة، والدليل على ذلك زيارة وفد كبير من حركة حماس للمغرب في يونيو/حزيران الماضي، برئاسة رئيس المكتب السياسي للحركة إسماعيل هنية، تلبية لدعوة رسمية من العثماني.

أكثرية الناخبين التي أوصلت "العدالة والتنمية" إلى المرتبة الأولى سابقاً انفضت من حوله

ويعد المغرب، الأكثر استقراراً بين دول المحيط الإقليمي. فالجزائر تشهد حراكاً شعبياً قاد إلى تغييرات مهمة في الطبقة الحاكمة، لكنه لم يصل إلى هدفه الأساسي حتى الآن، بينما تعيش تونس أزمة سياسية، وحالة جمود بسبب فشل النخب السياسية في التوصل إلى توافقات حول إدارة المرحلة الانتقالية. كما أن ليبيا تراوح مكانها رغم أنها خطت مسافة كبيرة نحو استعادة الدولة، وتحقيق المصالحة بين أطراف النزاعات والحروب المتواصلة منذ فبراير/ شباط 2011.
وحده المغرب أمضى العشرية الأخيرة من دون خضات سياسية كبيرة، واجتاز امتحان "الربيع العربي" بأخف الأضرار. وسارع الحكم في المغرب إلى تحصين نفسه ضد رياح "الربيع" التي هبت من تونس، وتعامل معها بحنكة أكثر من بقية الحكومات العربية الأخرى. ويعزى نجاحه في احتواء الموجة إلى التعديل الدستوري الذي أقره في الاستفتاء الشعبي في يوليو/تموز 2011. وفي الوقت الذي رأت بعض الأطراف في التعديل نقطة تحوّل على طريق تحويل المغرب إلى أول نظام ملكي دستوري في العالم العربي، فإن المسألة بقيت في إطار اللعبة المغربية، التي تعتمد على الطريقة التي يتصرّف بها الملك من جهة، وعلى قدرة ورغبة التنظيمات السياسية المغربية في الاستفادة من الفرص التي يتيحها لها الدستور من ناحية ثانية. وفي الحالتين، نجح محمد السادس في البقاء متقدّماً على حركة الاحتجاج التي أدّت إلى زوال النظامين في تونس ومصر، وأغرقت ليبيا وسورية واليمن في الدم.
وانتهت النقلة الهامة، وهي إجراء انتخابات تشريعية على أساس الدستور الجديد، إلى فوز الإسلاميين بالأغلبية البرلمانية. ولم يخف القصر أن يتولى الإسلاميون الحكم، فلديه تجربة سابقة مع المعارضة في "فترة التناوب" والانتقال من عهد الحسن الثاني إلى نجله محمد السادس في 1999. وكان لافتاً أن حزب "العدالة والتنمية"، الذي حلّ في المرتبة الثانية في الانتخابات النيابية في العام 2007، لكنه كان لا يزال في المعارضة، أوضح أنه يؤيّد الدستور الجديد، واعتبر أنه يحوي ضمانات ديمقراطية كافية. والسبب الرئيس لموافقة الحزب، على ما يبدو، يتعلق بالرغبة في مواصلة واستكمال عملية دمج الإسلاميين في العملية السياسية القانونية، وهو الهدف الذي ظلّ "العدالة والتنمية" يعمل من أجله لسنوات. وعلى الرغم من أنه لا يزال مرفوضاً في نظر البعض، إلا أنه بات موجوداً، وقاد الحكومة في دورتين متتاليتين، أضعفتا رصيده الجماهيري، كما حصل مع حزب الاتحاد الاشتراكي الذي كان الأقوى في ساحة المعارضة، ولكن تجربته في الحكم لم تكن على مستوى الطموحات.

برز خلال ولاية بنكيران تنازع الصلاحيات مع الملك صاحب القرار في الخيارات الاستراتيجية للسياسة العامة

ترك القصر المعارضة الإسلامية تحكم وفق الدستور الجديد، الذي نص على أن الملك يسمي رئيس الحكومة من الحزب الذي يحصل على أكبر عدد من الأصوات. ولم يعد الملك يشارك في جلسات مجلس الوزراء ويترأسّها، وإنما رئيس الحكومة. وكانت ولاية بنكيران أول تجربة لتطبيق الدستور الجديد، فيما برز تنازع الصلاحيات جلياً بين رئيس الحكومة والملك، صاحب القرار في الخيارات الاستراتيجية الرئيسية للسياسة العامة، والذي بيده سلطة جميع القرارات المهمة، ما أدى إلى إغلاق الطريق في وجه بنكيران لفترة ثانية في رئاسة الحكومة. وبدلاً من أن ينسحب "العدالة والتنمية" وينتقل إلى المعارضة، فإنه استمر في الحكم. وتجنب العثماني السير على خطى سلفه، واتبع أسلوب المهادنة، وتحول إلى موظف تنفيذي للقرارات التي تصله من القصر، ومرر العديد من القضايا المهمة تحت شعار "الصمت والدفاع عن الإنجاز". ومع ذلك خسر هو وحزبه الرهان على تجربة حكم مديدة، تقوم على التوافق بين القصر والإسلاميين.
كانت تجربة التعايش بين القصر و"العدالة والتنمية" تسير في طريق سليم إلى حد كبير في نظر أوساط دولية، فهي أبعدت المغرب عن رياح "الربيع العربي"، وأسست لنمط من التفاهم مع الأحزاب الإسلامية يختلف عن النموذجين المصري والتونسي. ولكنها توقفت قبل أن تبلغ سن الرشد، ما قد يعقد الموقف أكثر مما كان عليه في 2011، خصوصاً أن الهزيمة التي تلقاها "العدالة والتنمية" تتجاوز البعد السياسي إلى النفسي، وتتخطاه إلى شارع واسع يجد نفسه اليوم بلا تمثيل سياسي في الحكم. وفي كل الأحوال لا يمكن الحكم على مستقبل "العدالة والتنمية" من خلال تجربة الحكم، فالإسلاميون يبقون رقماً أساسياً في المشهد المغربي، شرط أن يقوموا بمراجعة ونقد للتجربة. إلا أن هزيمتهم المدوية ستكون لها ارتدادات على المستوى العام، لن يتأخر الوقت حتى تظهر آثارها الكبيرة.