الانتخابات الإسرائيلية الخامسة (1): الأزمة السياسية أشعلها نتنياهو

الانتخابات الإسرائيلية الخامسة (1): الأزمة السياسية أشعلها نتنياهو وأدامتها الكراهية لشخصه

22 يونيو 2022
نجح بينت ولبيد في إبعاد نتنياهو عن ديوان رئاسة الحكومة (أحمد غرابلي/فرانس برس)
+ الخط -

تبدو الأزمة السياسية والحزبية التي تعصف بإسرائيل، وكأنها بدأت منذ دهر من السنين بسبب خلافات عقائدية وتناقضات دينية واجتماعية متأصلة في المجتمع الإسرائيلي، غير أن واقعها وجذورها مغايرة كلياً. فهي في الواقع أزمة بدأت بقرار من رئيس الحكومة حتى العام الماضي، بنيامين نتنياهو، للهروب إلى الأمام من محاكمته بتهم الفساد والرشاوى، عندما أعلن في 24 ديسمبر/كانون الأول من العام 2018 حل حكومته الرابعة.

وغذّى الأزمة العداء الشخصي وتصفية الحسابات مع نتنياهو من قبل من بدأوا طريقهم ومشوارهم السياسي في إسرائيل قبل ثلاثة عقود مساعدين له، بعد انتصاره الأول على زعيم حزب العمل التاريخي، شمعون بيريس، في الانتخابات المباشرة عام 1995، بعد اغتيال رئيس الوزراء الأسبق إسحق رابين على يد يغئال عمير، الطالب في جامعة بار إيلان المحسوبة على التيار الديني الصهيوني.

الأزمة انطلقت في الأساس جراء دوافع نتنياهو الشخصية

خلفيات قرار نتنياهو بالذهاب لانتخابات

فقد جاء قرار نتنياهو في 26 ديسمبر للاتجاه لانتخابات جديدة، بعد أن كان ائتلافه الحكومي قد شهد أول أزمة جدية مع حليفه التاريخي، أفيغدور ليبرمان، الذي كان زعيماً لحزب "يسرائيل بيتينو"، والذي انسحب من الائتلاف الحكومي في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه على أثر خلافات مع نتنياهو. لكن القرار انطلق بالأساس من دوافع نتنياهو الشخصية، على الرغم من أن ائتلافه المذكور كان قد بدأ يواجه تصدعات.

ويتعلق الأمر بقرار الشرطة الإسرائيلية والنيابة العامة، فتح تحقيقات جنائية ضد نتنياهو وزوجته (سارة) في سلسلة من فضائح الفساد والرشاوى، بدءاً من تلقيه وزوجته هدايا من جملة من الأثرياء خلافاً للقانون، مروراً بمحاولات إبرام صفقة مع ناشر "يديعوت أحرونوت"، نوني موزيس، تقوم على إقناع مالك صحيفة "يسرائيل هيوم"، شيلدون إدلسون، بعدم إصدار ملحق أسبوعي مجاني كي لا يضر بمصالح "يديعوت أحرونوت" المالية. فضلاً عن محاولات لإبرام صفقات مشابهة مع مالك موقع "والاه" في ذلك الوقت، أرنون ميلتشين، الذي كان يملك أيضاً شركة "بيزك" للاتصالات الأرضية، وشبهات بشأن تورطه وأحد أقربائه في صفقة للغواصات مع ألمانيا.

واستغل نتنياهو المعركة الانتخابية التي جرت في التاسع من إبريل/نيسان 2019، من أجل تقويض شرعية الشرطة والنيابة العامة تحت شعار "لن يكون شيء لأنني لم أفعل شيئاً"، وخاض معركة انتخابات تحريضية ضد خصومه، لم يتورع فيها عن شيء. لكن نتائج هذه الانتخابات، تمخضت عن حالة من التعادل بين معسكر نتنياهو ومعسكر خصومه، واستحالة تشكيل ائتلاف حكومي بعد أن انتقل ليبرمان إلى المعسكر المناهض ووضع "فيتو" على أي حكومة برئاسة نتنياهو.

ومع أن حزب نتنياهو كان متفوّقاً عددياً على باقي الأحزاب، فضلاً عن حصول معسكر اليمين عموماً على أكثر من 60 مقعداً في تلك الانتخابات من أصل 120، إلا أن قرار ليبرمان فرض على نتنياهو، الذي كان رئيس حكومة تصريف أعمال، حل الكنيست والإعلان مجدداً عن انتخابات جديدة في 17 سبتمبر/أيلول من عام 2019.

كرّست الانتخابات الثانية خلال العام نفسه النتائج نفسها، مع تراجع معسكر نتنياهو إلى 55 مقعداً، فيما حصل معسكر ما سُمي بالوسط واليسار، من دون القائمة المشتركة للأحزاب العربية قبل انشقاقها، على 44 مقعداً. وكرر ليبرمان الذي زادت قوته إلى 8 مقاعد، الموقف المعارض ذاته لتشكيل حكومة مع نتنياهو، بينما كانت أحزاب القائمة المشتركة لا تزال خارج صورة التحالفات على الرغم من حصولها على 13 مقعداً.

واضطرت إسرائيل للذهاب لانتخابات ثالثة لعدم قدرتها على الحسم وعدم تمكن نجم السياسة الإسرائيلية الجديد حينها، الجنرال بني غانتس، الذي تحالف مع زعيم حزب "ييش عتيد" يئير لبيد في قائمة مشتركة باسم "كاحول لفان"، من أن يكون بديلاً يجذب أحزاب الحريديم واليمين الأخرى لحكومة يمين جديدة، من دون نتنياهو، بما في ذلك نفتالي بينت الذي كان حزبه "يمينا" حاز 7 مقاعد.

واتجهت إسرائيل في الثاني من مارس 2020، لانتخابات ثالثة، من دون أن يبدو في الأفق أمل بفوز خصوم نتنياهو عليه، أو تمكن الأخير ومعسكره من تأمين أغلبية 61 مقعداً لتشكيل حكومة.

لكن هذه الانتخابات كانت مصحوبة هذه المرة بخطوة غير مسبوقة، عندما أعلن رئيس القائمة المشتركة للأحزاب العربية، أيمن عودة، في مقابلة مع صحيفة "يديعوت أحرونوت"، قبيل الانتخابات، بأنه سيكون مستعداً للمشاركة في ائتلاف حكومي يشكله الوسط واليسار في إسرائيل، ما دام الهدف الأساسي إزاحة نتنياهو من الحكم، إذا كانت الأحزاب الصهيونية تقبل بمشاركة حزب عربي غير صهيوني في الحكومة، أو بدعم العرب للحكومة من الخارج، على غرار ما حدث خلال حكومة رابين عشية التصويت على اتفاقيات أوسلو عام 1993.

فضّل نتنياهو إسقاط الحكومة على تسليم مقاليد الحكم لغانتس

تمخضت الانتخابات المعادة للمرة الثالثة من دون تشكيل حكومة بديلة لنتنياهو أو تشكيل الأخير لحكومة يمينية، عن نتائج بدت مشجعة لجهة إسقاط نتنياهو.

وتعزز ذلك بعد أن أوصت القائمة المشتركة (والتي ضمت في صفوفها حتى ذلك الوقت أيضاً القائمة العربية الموحدة للحركة الإسلامية بقيادة منصور عباس) لدى الرئيس الإسرائيلي بتكليف غانتس بتشكيل حكومة جديدة، على الرغم من أنه لم يكن ينف احتمالية التحالف مع نتنياهو، وعلى الرغم من تأييده صفقة القرن (خطة الإملاءات الأميركية لتصفية القضية الفلسطينية).

انقلاب نتنياهو على غانتس

حصل الليكود بقيادة نتنياهو في الانتخابات الثالثة على 36 مقعداً، فيما حصل تحالف غانتس-لبيد، "كاحول لفان"، على 33 مقعداً. لكن غانتس الذي حظي بتوصية من القائمة المشتركة لتشكيل حكومة جديدة، لم يتمكن من تشكيل حكومة ائتلاف بدون الليكود.

وفي خطوة مفاجئة، انقلب على المعسكر المناهض لنتنياهو، وخاض مفاوضات سرية مع الأخير تمخّضت عن تشكيل حكومة وحدة وطنية معه تم من أجلها أيضاً تغيير قانون أساسي متعلق بالحكومة الإسرائيلية، واستحداث منصب رئيس حكومة بديل، والاتفاق على التناوب على رئاسة الحكومة بين نتنياهو وغانتس.

إلا أن نتنياهو بعد عام تقريباً من عمر الحكومة المشتركة، انقلب على غانتس وفضّل إسقاط الحكومة عبر عدم تمرير ميزانية للدولة على أن يسلم مقاليد الحكم لغانتس، بحسب الاتفاقية المبرمة بينهما. صمدت حكومة نتنياهو المشتركة مع غانتس أكثر من عام بقليل، إذ حكمت بين 16 مارس 2020 و6 إبريل 2021.

الكراهية لنتنياهو تقسم اليمين الإسرائيلي

في مارس 2021، جرت الانتخابات الرابعة، فيما كانت حالة التشظي تعصف بالساحة الحزبية الإسرائيلية، مع تنامي قوة اليمين الإسرائيلي لأكثر من 80 نائباً من أصل 120 نائباً في الكنيست، لكن وسط انقسام هذا المعسكر بشكل واضح ليس على أساس المواقف السياسية والفكرية، بل بالأساس على مسألة الكراهية الشخصية لنتنياهو ممن كانوا طيلة الوقت من مؤيديه أو مؤيدي حزبه.

فقد شهدت هذه الانتخابات انتقال حزب أفيغدور ليبرمان، الذي شغل في مطلع حياته السياسية وخلال حكومة نتنياهو الأولى عام 1995 منصب المدير العام لديوان الأخير، نهائياً للمعسكر المناهض لنتنياهو.

كما أصبح بينت وشريكته السياسية على رأس حزب "يمينا" إيليت شاكيد، بشكل واضح وكلي ضد بقاء نتنياهو في الحكومة، علماً بأن الاثنين كانا بدآ طريقهما في السياسة الإسرائيلية أيضاً في وظائف رفيعة في ديوان نتنياهو، بين عامي 2006 و2008.

إذا شغلت شاكيد سابقاً منصب مديرة ديوان زعيم المعارضة نتنياهو، وهي التي استقدمت بينت بعد حرب لبنان الثانية (2006) للعمل مع الأخير، قبل أن تندلع خلافات بين الاثنين وبين نتنياهو، وبدقة أكثر بعد الفيتو الذي وضعته زوجة الأخير سارة، على مواصلة عمل شاكيد وبينت مع زوجها. فاتجه الاثنان بعد ذلك لحزب "المفدال" الديني، وتمكن بينت بعد التغلب على زعيم الحزب زبولون أورليف، من إقناع قيادته بضم شاكيد للائحة الحزب، على الرغم من كونها علمانية وغير متدينة.

كذلك، انشق غدعون ساعر عن حزب الليكود، بعد خلافات شخصية مع نتنياهو، وانشق معه أيضاً اثنان ممن عملا سابقاً مع الأخير وهما تسفي هاوزر، الذي شغل منصب مدير ديوان نتنياهو، ويوعاز هندل.

شكل ساعر حزباً جديداً أطلق عليه اسم "تكفاه حداشاه" (أمل جديد)، وخاض برفقة هاوزر وهندل والوزير السابق لدى نتنياهو زئيف إليكن، الانتخابات الرابعة وحصلوا على 7 مقاعد، لتتبلور بعد الانتخابات خريطة حزبية فيها ثلاثة أحزاب يمينية متطرفة هي "يسرائيل بيتينو" بقيادة ليبرمان، و"يمينا" بقيادة بينت و"تكفا حداشاه"، وتملك 20 مقعداً، لكنها ترفع شعار تغيير نتنياهو وإسقاطه من الحكم.

وعلى أثر التجربة الفاشلة لغانتس مع حكومة الوحدة مع نتنياهو، تولّدت قناعة لدى أحزاب الوسط واليمين للمرة الأولى بإمكانية تشكيل ائتلاف حكومي يضم أحزاباً حتى من أقصى اليسار ومن الأحزاب العربية (بعد انشقاق القائمة المشتركة إلى قائمتين واحدة برئاسة أيمن عودة والأخرى برئاسة منصور عباس) والذهاب لشراكة وحكومة هجينة مقابل إبعاد نتنياهو عن الحكم مهما كان الثمن.

وهكذا، تم تشكيل ائتلاف حكومي من 8 أحزاب؛ ثلاثة منها يمينة خالصة، وحزبان يعرفان كحزبي وسط هما "كاحول لفان" بقيادة غانتس، و"ييش عتيد" بقيادة يئير لبيد، وحزبان من اليسار هما "العمل" و"ميرتس" وقائمة عربية هي القائمة الموحدة بقيادة منصور عباس.

توافقت الأحزاب الثمانية على خطوط عريضة، أهمها الإبقاء على الوضع القائم في الضفة الغربية المحتلة وعدم إطلاق أي تحرك سياسي مقابل الفلسطينيين، من جهة، وعدم تنفيذ مخطط ضم الضفة الغربية المحتلة أو أجزاء منها للسيادة الإسرائيلية، كحل وسط بين مركبات اليمين واليسار، من جهة أخرى.

واعتمد بينت وساعر وليبرمان في القبول بمشاركة حزب عربي في الائتلاف، على حقيقة إجراء نتنياهو خلال الجولات الانتخابية الثلاثة مفاوضات مع زعيم القائمة الموحدة للحركة الإسلامية منصور عباس، بعد افتضاح هذه المفاوضات، وذلك لأخذ شرعية للحكومة الهجينة الجديدة أمام الناخب الإسرائيلي.

كما أنهم استفادوا من موقف القائمة المشتركة التي ظلت خارج الحكومة، من خلال توصية القائمة بقيادة أيمن عودة على يئير لبيد لتشكيل حكومة جديدة، برئاسة نفتالي بينت، وتصويت أعضاء القائمة الستة مع مرشح الائتلاف الحكومي لرئاسة الكنيست ميكي ليفي، كي يتسنى عقد الكنيست والتصويت على منح الثقة للحكومة الجديدة.

تركيبة الحكومة الأخيرة وفرت سلاحاً لنتنياهو لهدمها


سقوط حكومة بينت - لبيد

نجحت حكومة بينت من خلال هذه التركيبة الهجينة وخرق الأخير لوعوده الانتخابية بعد تشكيل حكومة مع يئير لبيد ومع القائمة الإسلامية، للمرة الأولى في إبعاد نتنياهو عن ديوان رئاسة الحكومة. إلا أن هذه التركيبة الهجينة للحكومة وعلى الرغم من السياسة الأكثر تشدداً التي اعتمدتها؛ سواء في ملف الاستيطان أو في تكريس التقاسم الزماني في المسجد الأقصى، وبمجرد اعتمادها على حزب إسلامي وآخر يساري (متطرف بنظر الإسرائيليين) هو حزب "ميرتس"، وفرت أسساً وسلاحاً حاداً بأيدي نتنياهو لهدم هذا الائتلاف والتشكيك بشرعيته "اليهودية الصهيونية".

إذ دأب نتنياهو على اتهام الحكومة الجديدة بشكل ممنهج ومثابر بأنها تعتمد على "الإخوان المسلمين" في إشارة لحزب منصور عباس، وبأنها تبيع الدولة لحزبه وتخضع لإملاءات القائمة المشتركة بقيادة عودة، التي لم تبذل جدياً أي خطوة لإسقاط الحكومة، بل عرقلت إسقاطها في السابق بحجة عدم رغبتها بإفساح المجال أمام نتنياهو للحكم.

لكن معول نتنياهو لهدم الحكومة تمكّن أول من أمس الإثنين من إخضاع بينت ولبيد ودفعهما لإعلان عزمهما حل الحكومة والذهاب لانتخابات مبكرة معللين ذلك برغبتهما بضمان تمديد قانون أنظمة الطوارئ الذي ينظم سريان القانون الإسرائيلي على المستوطنات والمستوطنين في الضفة الغربية، بعد فشل الائتلاف الحكومي بتمرير هذا التمديد وخسارة الحكومة لأغلبيتها في البرلمان.

المساهمون