استمع إلى الملخص
- تتعامل البعثة مع الأزمة كأنها مشكلة قانونية بحتة، متجاهلة أهمية وجود آليات تنفيذية تحمي القوانين من تأثير المليشيات، مما يجعل تطبيق القوانين الانتخابية صعبًا.
- تاريخ تعامل البعثة يظهر تجاهلها للعامل الأمني في الاتفاقات السابقة، حيث تركز على الجوانب التقنية القانونية بدلاً من معالجة الوضع الأمني المتدهور، مما يعكس مصالح الدول الداعمة للبعثة.
نشرت البعثة الأممية للدعم في ليبيا، في 20 مايو/أيار الحالي، الخيارات الأربعة التي قدمتها اللجنة الاستشارية كمحاولة منها لتقديم تصور يسهم في تجاوز الأزمة السياسية المستعصية في البلاد منذ سنوات. تدور الخيارات المطروحة حول آليات تنظيم الانتخابات: تنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية، أو انتخابات برلمانية فقط يتولى فيها البرلمان الجديد إعداد دستور دائم للبلاد لتجري الانتخابات على أساسه، أو تعمل الأجسام الحالية على اعتماد الدستور الحالي المقدم إلى مجلس النواب منذ عام 2017 ليكون أساساً للانتخابات، أو اختيار ستين شخصية ليبية لإنشاء مجلس تأسيسي بديل عن كل الأجسام السياسية الحالية ويتولى تصميم الوضع السياسي والتشريعي للبلاد من الصفر.
ورغم أن البعثة تؤكد أن هذه الخيارات نتاج حوار اللجنة الاستشارية الليبية، المؤلفة من 20 خبيراً ليبياً في القوانين والتشريعات، إلا أن اللافت أنها دفعت منذ البداية إلى اختزال الأزمة الليبية في إطاريها القانوني والفني، متجاهلة عامل العرقلة الأساسية للانتخابات، بل عامل الأزمة على طول الخط منذ 14 عاماً، وهو سيطرة المليشيات المسلحة على الأرض، وقدرتها على نسف أي تسوية لا تخدم مصالحها.
دفْع البعثة الأممية نحو تركيز النقاش والحوار على القوانين الانتخابية وحدها، كمن يُغرق المريض في معالجة الأعراض دون التشخيص الدقيق لمرضه، فالمشكلة الأساسية في ليبيا ليست في غياب القوانين أو الخلافات حولها، بل في من يملك سلطة تنفيذ هذه القوانين على أرض الواقع. فبعدما أجريت ثاني انتخابات برلمانية في ليبيا عام 2014 وذهب البرلمان الجديد (مجلس النواب الحالي) وقتها للاحتماء بمليشيات خليفة حفتر في الشرق، وأعادت المليشيات في الغرب البرلمان السابق (المؤتمر الوطني العام ) للواجهة مجدداً، صارت الكلمة للسلاح ومن يملكه، وغرقت البلاد في مليشيات متعددة لها الكلمة العليا على أي سلطة مدنية.
تتعامل البعثة الأممية مع الأزمة الليبية كما لو كانت ورقة قانونية يمكن حلّها بجلسة نقاش بين الخبراء، بينما الواقع يقول إن القوانين نفسها لا قيمة لها دون آليات تنفيذ تحميها من عبث المسلحين والمليشيات. فحتى لو افترضنا أن الليبيين توافقوا على قانون انتخابي موحد، فمن سيضمن تطبيقه وسط انتشار المليشيات؟ ومن سيمنع تلك الجماعات من تزوير الانتخابات أو إلغائها إذا خسرت؟
القراءة في تاريخ تعامل البعثة الأممية في الملف السياسي الذي كُلفت بتقديم التيسيرات لدفعه نحو التوافقات، توضح أنها كانت على طول خط الأزمة تتجاهل عن عمد الدور المركزي للعامل الأمني، فلم يتضمن الاتفاقان اللذان رعتهما، اتفاق الصخيرات عام 2015 واتفاق جنيف عام 2021، أي آليات للترتيبات الأمنية لضمان تنفيذها. والآن يظهر ذلك أيضاً في مبادرتها الحالية، فمنذ البداية تحصر الصراع السياسي العسكري في نقاش تقني قانوني، وكأن المشكلة تكمن في "كيفية" إجراء الانتخابات وليس في "إمكانية" إجرائها، ما يُظهر جلياً أن الدول التي تقف وراء البعثة مصلحتها في تدوير الأزمات بدل حلّها، بتحريك المفاوضات بين الأطراف نفسها، وإعادة إنتاج الحلول في سيناريوهات تتلون كل مرة مع لون تطور الأزمة، وتترك السلاح على الأرض يترسخ نفوذ من يملكه ويزداد قوة.
اللافت أن البعثة نشرت خيارات حلحلة مشكلات القوانين الانتخابية لتذهب البلاد إلى انتخابات، بالتزامن تماماً مع انخراطها في تثبيت اتفاق وقف إطلاق النار بين فصائل أدخلت العاصمة طرابلس في مواجهات دامية وسط الأحياء، أخيراً. مليشيات تصرخ لتقول إن الكلمة لصناديق الذخيرة وليست لصناديق الاقتراع والانتخابات، وهو ما يعلمه الليبيون أيضاً، والذين يدركون أن الانتخابات دون أي أسس أمنية وسياسية متينة، بما فيها تنظيم السلاح وضغط دولي جاد وصادق، ستتحول إلى أداة لإضفاء الشرعية على واقع فرضه قادة السلاح.