الأزمة بين الجزائر ودول الساحل... مؤشرات التصعيد أكبر من التهدئة
استمع إلى الملخص
- تتهم مالي الجزائر بعدم التفاعل مع التحولات، بينما ترى الجزائر أن مالي تتبنى نهجًا تصعيديًا، وتلعب روسيا دورًا في تأجيج التوترات لتعزيز نفوذها، خاصة مع اعتراض الجزائر على وجود مرتزقة فاغنر.
- تعكس الأزمة تأثير المناورات السياسية على العلاقات الاقتصادية، حيث تسعى روسيا لعرقلة مشاريع مثل أنبوب الغاز العابر للصحراء، مما يعكس تعقيدات السياسة الدولية واستمرار التصعيد.
تتسارع تطورات الأزمة السياسية بين الجزائر ومالي، بشكل لافت، بالإضافة إلى النيجر وبوركينا فاسو، في أعقاب حادثة إسقاط الجيش الجزائري مسيّرة مالية قال إنها اخترقت الأجواء الجزائرية في 31 مارس/آذار الماضي. واتخذت الجزائر والدول الثلاث خطوات متبادلة، تمثلت في استدعاء السفراء للتشاور وإغلاق المجال الجوي أمام حركة الطيران. وتبدو مؤشرات التصعيد في هذه الأزمة أكبر من مؤشرات التهدئة، خصوصاً على صعيد العلاقة بين الجزائر ومالي، وذلك بالنظر إلى اللهجة السياسية الحادة والمتشنجة التي تستخدمها باماكو تجاه الجزائر، وتوجيه اتهامات بدعم الإرهاب، إضافة إلى عامل وجود أطراف إقليمية تغذي هذه الأزمة لحسابات سياسية واقتصادية في المنطقة.
الأزمة بين الجزائر ودول الساحل
بعد قرار استدعاء السفراء للتشاور، تم إغلاق متبادل للمجال الجوي بين الجزائر ومالي، في مؤشر متقدم على حجم الأزمة والنقطة التي بلغتها الخلافات. وانضمت النيجر وبوركينا فاسو، بحكم التحالف الكونفيدرالي مع مالي، إلى الأزمة، غير أن قراءة هذا المأزق ضمن حادثة إسقاط الجيش الجزائري للمسيّرة المالية بعد انتهاكها الأجواء الجزائرية، ورفض مالي الرواية الجزائرية واعتبار أنه تمّ إسقاط المسيّرة داخل أراضي مالي، لا توضح الصورة على النحو الكامل. تأتي هذه التطورات ضمن سياق أزمة عمرها أربع سنوات، منذ رفض الجزائر للانقلاب العسكري الذي أطاح الرئيس باه نداو في مايو/أيار 2021، خصوصاً بعد استقبال وإقامة الشيخ محمود ديكو، أبرز المعارضين السياسيين لسلطة العسكر في مالي وأهم المرجعيات الدينية المالية. وتفاقمت الأزمة لاحقاً بعد إعلان باماكو في ديسمبر/كانون الأول 2023، إلغاء العمل باتفاق السلام الموقع في مايو 2015 في الجزائر، بين سلطات مالي وحركات الأزواد. ووصف العسكر الحركات الأزوادية بـ"الإرهابيين".
أحسن إخلاص: السلطة الحاكمة في مالي بشكل خاص، تبدو عازمة على مواصلة التصعيد في الموقف تجاه الجزائر
بعد ذلك، قصف الجيش المالي بطائرة مسيّرة مدنيين في منطقة تين زواتين المالية، على بعد أمتار من الحدود بين مالي والجزائر ما تسبب في مقتل 20 مدنياً، في نهاية شهر أغسطس/آب الماضي، حيث طالبت الجزائر بمحاسبة دولية للأطراف، وإلى تحرك دولي لملاحقة الجيوش الخاصة (المرتزقة) التي تستعين بها بعض الدول. وهي تصريحات أثارت حفيظة مالي، التي اتهمت الجزائر برعاية ودعم الإرهاب والتدخل في شؤونها الداخلية، خصوصاً التصريحات التي أصدرها وزير الخارجية المالي عبدالله مايغا في كلمته أمام الدورة الـ79 للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، في سبتمبر/أيلول الماضي، ومنها أن "الجزائر تؤوي الإرهابيين"، وأن "الجزائر تلعب دور المشوش ولا تحترم حسن الجوار... وعليها أن تعلم أن مالي ليس ولاية جزائرية". ورد وزير الخارجية الجزائري أحمد عطاف، على تصريحات مايغا، ووصفها بأنها "كلام وضيع لا يليق البتة ولغة منحطة قليلة الأدب".
وعلى هذا المنحى الزمني والسياسي المتصاعد للخلافات بين البلدين وصولاً إلى الحادث العسكري، تطرح بعض التقديرات السياسية مخاوف جدية من سيناريو أكثر تعقيداً في الأزمة وبأن تتجه العلاقات إلى مزيد من التصعيد، تحديداً بسبب الموقف والنهج الذي تتبناه مالي تجاه الجزائر، بغضّ النظر عما إذا كان هذا النهج قناعة سياسية محلية، أو تغذيها أطراف مختلفة لها مصلحة من استبعاد الجزائر من أداء أي دور تقليدي في المنطقة. غير أن هذا التصعيد لا يمكن أن يتعدى مستوى السياسي والخطوات الدبلوماسية، لكون الجانب المالي لا يملك أية أوراق ضاغطة يمكن أن يستخدمها ضد الجزائر، وهذه مسألة تضع القيادة المالية مع الوقت أمام واقع صعب جداً في قرار إغلاق المجال الجوي، الذي سيعزل مالي بالنسبة لحركة الطيران إلى أوروبا ويدفع إلى تغيير مسارات الملاحة الجوية.
في السياق، أبدى الكاتب أحسن إخلاص في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، اعتقاده أن "السلطة الحاكمة في مالي بشكل خاص، تبدو عازمة على مواصلة التصعيد في الموقف تجاه الجزائر، حتى ولو أكدت التحقيقات شرعية ما قامت به الجزائر في حالة دفاع استدعتها مقتضيات الأمن القومي". وأضاف أن هذه السلطة "تسعى إلى تغذية الموقف المالي عبر إثارة الأزمة مع الجزائر، وتوظيف الروح القومية المحلية للبقاء في الحكم لأطول فترة ورفض العودة إلى المسار الدستوري، وهو تقدير غير موفق على اعتبار أن أي توتر على الأرض سيجر المنطقة كلها إلى ويلات، وهذا ليس من مصلحة الدول الكبرى مثل الولايات المتحدة وفرنسا، التي تمتلك مصالح اقتصادية خاصة في الجنوب الجزائري".
ونسفت هذه الأزمة جهوداً ورسائل إيجابية بين الجزائر وباماكو بعد إرسال سفيرين جديدين وتصريحات إيجابية للسفير المالي الجديد في الجزائر محمد أماغا دول، قال فيها إن "الجزائر بلد شقيق وصديق نتقاسم معه العديد من الروابط التاريخية والجغرافية والاقتصادية"، مشدّداً على أنه "سيعمل على خريطة الطريق لمهمته في الجزائر، لتعزيز التعاون الثنائي بين البلدين"، في مقابل تحسن كبير للعلاقة بين الجزائر والنيجر وتوقيع حزمة اتفاقات تعاون في الطاقة والكهرباء وغيرها، وبعد إرسال الجزائر حزمة مساعدات إلى بوركينا فاسو.
رؤية مالي للتطورات
لكن قراءة الأزمة بالنسبة للماليين ذهبت في اتجاه مختلف، واعتبرت أن هناك تحولات في الأوضاع في المنطقة، لم تتفاعل معها الجزائر بالشكل المطلوب، والتي كان يتعين عليها إعادة تقدير موقفها في التعامل مع دول الساحل، وسبق لعدد من المسؤولين الماليين أن عبّروا عن شعور بتعالٍ سياسي من قبل الجزائر تجاه باماكو.
محمدو ديالو: جزء من الأزمة يقع على عاتق الجزائر أكثر من مالي
وشرح المحلل السياسي المالي المقيم في باريس محمدو ديالو ذلك بالقول: "أعتقد أن جزءاً من الأزمة يقع على عاتق الجزائر أكثر من مالي، إذ تملك الجزائر الأدوات التي كانت ستسمح لها باستباق كل هذا الوضع. هناك متغيرات قائمة في مالي وكان يتعين على الجزائريين فهمها، وكان الماليون يتوقعون أن تدفع الجزائر وتساعدهم في مسعى طرد فرنسا من المنطقة من جهة. ومن جهة ثانية استعادة سلطة الدولة المالية على مناطق الشمال، ووضع حد لوجود سلاح وتنظيمات مسلحة خارج سلطة الدولة مثل حركات الطوارق. لكن موقف الجزائر لم يكن مشجعاً بالنسبة للنقطة الأولى، ومعترضاً على النقطة ثانية، وهذا هو مكمن الأزمة". وبرأيه فإنه "إزاء ذلك، وجدت دول الساحل سبيلاً إلى التكتل وتوحيد موقفها السياسي ومقاربتها الأمنية، لإنهاء وضع قائم والعمل على تغييره، والعمل مع شركاء أكثر فاعلية، في مقدمتهم روسيا".
وطرحت الكثير من التحاليل خلفيات أخرى للأزمة بين الجزائر ومالي ودول الساحل، متصلة بمتغيرات ومشاريع وحسابات سياسية واقتصادية لبعض القوى في المنطقة، وعلى رأس هذه الأطراف روسيا، التي باتت اللاعب الأبرز في المنطقة، وتسعى إلى تمركز أمني واقتصادي في دول الساحل. في السياق، زار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف المنطقة أكثر من مرة أخيراً، ومن المرتقب عقد اجتماع لوزراء دول الساحل مع لافروف في موسكو قريباً. وحول ذلك، أكد القيادي في حزب التجديد في النيجر عمر الأنصاري، أنه من طبيعة الأزمات السياسية أن تخفي وراءها خلفيات أخرى وحسابات مختلفة، وقال في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، إنه "من المرجح جداً أن يكون لموسكو دور استراتيجي في تأجيج التوترات بين مالي والجزائر، بسبب اعتراض الأخيرة على وجود مرتزقة فاغنر في شمال مالي، وكذلك قد يكون لروسيا دور مماثل بين الجزائر والنيجر، بهدف عرقلة تنفيذ مشروع أنبوب الغاز العابر للصحراء، الذي يُنظر إليه منافسا قويا لها في سوق الطاقة الأوروبية. وقد تسعى روسيا، على أقل تقدير، إلى تأخير هذا المشروع حتى انتهاء الأزمة الأوكرانية، وذلك لمنع ظهور بديل يمكن أن يتيح للاتحاد الأوروبي الاستغناء عن اعتمادها على إمدادات الطاقة الروسية بشكل كامل. يعكس هذا التحرك تأثير المناورات السياسية على ديناميكيات العلاقات الاقتصادية الدولية، حيث تستخدم القوى العظمى نفوذها للحفاظ على هيمنتها في أسواق الطاقة العالمية".