مع اقتراب العراق من شهره العاشر دون حكومة، في واحدة من أعقد الأزمات السياسية التي عصفت بالبلاد عقب إجراء الانتخابات البرلمانية في العاشر من أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي، وما أفرزته من نتائج غير متوقعة بفوز الصدريين وتراجع حلفاء إيران وبروز القوى المدنية والمستقلين لأول مرة كلاعب مهم داخل البرلمان بأكثر من 40 مقعداً، تتوقف بلاد الرافدين أمام مرحلة متغيرات جديدة في المشهد السياسي العام.
ومنذ إعلان نتائج الانتخابات النهائية الرسمية في العراق، في الثلاثين من نوفمبر/ تشرين الثاني العام الماضي، (بعد 50 يوماً من إجراء عملية الاقتراع)، تتواصل الأزمة السياسية، مسجلة بذلك إحدى أطول الأزمات التي تشهدها بغداد، منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003.
تؤكد معظم تعليقات وتغريدات زعيم "التيار الصدري"، مقتدى الصدر، الذي يقود احتجاجات شعبية واسعة في المنطقة الخضراء، وسط العاصمة العراقية بغداد، ضد قوى "الإطار التنسيقي" القريبة من إيران، أنه يريد إجراء تعديلات دستورية وفصل المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى عن التأثيرات السياسية وإعادة الانتخابات التشريعية.
ويستخدم الصدر الأداة الأقوى لديه، وهي جماهيره المنظمة والمطيعة في مبنى مجلس النواب، لمنع أي جلسة برلمانية وتعطيل الحياة السياسية، فيما لم تفلح محاولات بعض زعماء الأحزاب ضمن "الإطار التنسيقي" في إقناعه بالجلوس إلى طاولة الحوار.
وتتركز الأزمة السياسية حول تشكيل الحكومة المقبلة، إذ يصر مقتدى الصدر، الذي حازت كتلته المرتبة الأولى في الانتخابات، على تشكيل حكومة أغلبية وطنية، رافضاً العودة إلى حكومات التوافق القائمة على المحاصصة ووفقاً للأوزان الطائفية في البلاد. في المقابل، يرفض تحالف "الإطار التنسيقي"، الذي يضم عدداً من القوى الحليفة لإيران ذلك، ويؤكد أيضاً رفضه تشكيل أي حكومة لا تكون من خلال كتلة المكون الشيعي في البرلمان، وهو ما يرفضه الصدر أيضاً، الذي أعلن عقد تحالف عابر للهويات الفرعية ضم تحالف "السيادة"، الذي يقدم نفسه ممثلاً سياسياً عن العرب السُّنة بزعامة خميس الخنجر، و"الحزب الديموقراطي الكردستاني" الحاكم في إقليم كردستان العراق بزعامة مسعود البارزاني.
وفي يونيو/ حزيران الماضي أعلن الصدر الانسحاب من العملية السياسية وتقديم نواب كتله استقالتهم من البرلمان رداً على التفاف القوى لحليفة لإيران على نتائج الانتخابات في تشكيل الحكومة، وهو ما أدخل الأزمة بمزيد من التعقيد الذي أوصلها إلى نزول أنصاره للشارع.
كان الصدر أكبر الداعمين، إلى جانب القوى المدنية والأحزاب الجديدة التي تأسست بعد "انتفاضة تشرين" لقانون "الدوائر المتعددة" الانتخابي، الذي أقر في البرلمان انسجاماً مع مطالب المتظاهرين العراقيين، فيما قبلت به قوى "الإطار التنسيقي" على مضض، وقد استفاد الصدر منه كثيراً بحصوله على 73 مقعداً في البرلمان الجديد. وكان من المفترض أن يتولى تشكيل الحكومة باعتباره "الكتلة الكبرى" الفائزة بالانتخابات، التي يمنحها قانون الانتخابات الحق بتشكيل الحكومة، إلا أن تفسيرات المحكمة الاتحادية ولجوء "الإطار التنسيقي" إلى تعطيل جلسات البرلمان حالا دون ذلك، إلى أن اندفع الصدر باتجاه الامتعاض ثم الانسحاب واستقالة كتلته من البرلمان.
يقع العراق حالياً في حالة جديدة من حالات الاضطراب السياسي، متمثلة بلجوء الصدر إلى تعطيل العملية السياسية بالكامل، مقابل الحصول على مطالبه، التي لخصها بعبارة "التغيير الجذري" في إحدى تغريداته عبر "تويتر". فقد رفع سقف مطالبه إلى "تغيير النظام السياسي والدستور وتحرير الشعب من نار الظلم والإرهاب والفساد والاحتلال والتبعية"، بعد أن كان المتوقع أنه يرفض مرشح "الإطار التنسيقي" لمنصب رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، المقرب من رئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي.
ويجد الصدريون الآن أن غريمهم هو "القضاء" الذي لم ينصفهم، ولم يمنحهم الفرصة بتشكيل الحكومة، وهو ما ظهر في اقتحامهم للمنطقة الخضراء، حين توجهوا مباشرة بعد السيطرة على مبنى البرلمان إلى مبنى مجلس القضاء الأعلى، فيما تعلو أصواتهم بالهتافات بطلب إبعاد القضاء عن هيمنة وسيطرة "قوى الإطار" عليه، وتحديداً الجزء الذي يتحكم فيه المالكي.
حسين: القانون في العراق بات يميل مع بعض الجهات السياسية
وفسرت المحكمة الاتحادية، بحسب قانون الانتخابات الذي عُمل به في الانتخابات التي أجريت في 10 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، بمنع انتقال النائب أو الحزب أو الكتلة المسجلة ضمن قائمة مفتوحة إلى ائتلاف أو حزب أو قائمة أخرى إلا بعد تشكيل الحكومة، وهو ما منح "التيار الصدري" أحقية التكليف بتشكيل الحكومة، إلا أنها لم تساند "التيار" بعد الخلافات مع "الإطار التنسيقي"، وفقاً للعضو البارز في "التيار" عصام حسين.
وقال حسين لـ"العربي الجديد"، إن "القانون في العراق بات يميل مع بعض الجهات السياسية، وهو ما لا يتفق مع الديمقراطية وتوجهات الجماهير"، مبيناً أن "القانون في العراق يعتمد على المصالح والدعم السياسي، إضافة إلى صفقات تمنح أحياناً لبقاء القاضي في منصبه أو سلطته، ناهيك عن تسهيل أوضاعه المالية". وتابع قائلاً: "كما أن أغلب القضاة لديهم أعمال خاصة بهم تدرّ عليهم الأرباح، وأن هذا الاضطراب في المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى برئاسة فائق زيدان لا يبني دولة ولا يؤدي إلى تحسين الأوضاع".
وأضاف أن "الوقوف بوجه التغيير في المرحلة المقبلة وإنهاء آمال الحراكات الناشئة ومنعها في التأثير على القرار السياسي دفع إلى أن يكون الاحتجاج الشعبي هو الحل، على الأقل في الوقت الحالي، لتحرير القضاء المرتبط ببعض الأحزاب بشكلٍ واضح"، معتبراً أن "التيار الصدري حصل على 73 مقعداً في البرلمان، لكن التفسيرات وقرارات المحكمة الاتحادية ومجلس القضاء الأعلى الذي يدار وفق المحاصصة الحزبية والطائفية، جعلت أحزاباً لم تحصل إلا على مقعد واحد أو مقعدين تتحكم بمصير الشعب وتريد أن تذهب إلى تشكيل الحكومة، وهذا انقلاب على إرادة الشعب العراقي، في حين أن الاحتجاجات الحالية ستنهي آمال الإطار التنسيقي بتشكيل الحكومة".
الصراع أوقف العمل السياسي
من جهته، أشار الناشط السياسي موسى رحمة الله، إلى أن "عودة التيار الصدري للمطالبة بإعادة الانتخابات يأتي لسعيه إلى الحصول على مكاسب أخرى، وأعداد أكبر من المقاعد في مجلس النواب عبر الانتخابات المبكرة، وأن كل القوانين الانتخابية تناسب التيار الصدري بفضل تنظيمه الكبير لجماهيره، وتأسيس الأغلبية الوطنية"، مؤكداً لـ"العربي الجديد"، أن "الإطار ليس لديه موقف واحد من التيار الصدري، بل هناك أكثر من موقف، وقد تبيَّن ذلك خلال التظاهرة الأخيرة التي دعا لها الإطار بعنوان دعم الشرعية، وهناك عدم رؤية وتوحد وصراع داخلي بين أطراف الإطار".
ولفت رحمة الله إلى أن "التيار الصدري يعطل تشكيل الحكومة عبر جماهيره، والإطار التنسيقي يعطل مشروع الأغلبية الوطنية التي يطالب بها الصدر عبر القانون والمحكمة الاتحادية، بالتالي فإن الصراع أوقف العمل السياسي"، مشيراً إلى أن "التيار الصدري إذا أقدم على الحوار مع الإطار التنسيقي بعد إبعاد نوري المالكي، فإنه سيؤدي إلى قبول جزئي بشروط بعضهما".
وأضاف: "هناك احتمال لانضمام قوى أخرى، لكن بكل الأحوال فإن الخطوات المقبلة للصدر غير معروفة، فقد يتجه إلى التصعيد أو البقاء ضمن الضغط الشعبي بإسناد من جماهيره وبعض العشائر، واستمرار محاولاته لتفكيك الإطار التنسيقي".
مصطفى: النواب المستقلون زادوا الطين بلة
بدوره، بيَّن أستاذ الإعلام السياسي في كلية الإعلام بجامعة بغداد علاء مصطفى أن "الأجواء الملتهبة حالياً بين قوى الإطار التنسيقي والتيار الصدري تعود إلى الانتخابات الأخيرة التي لم تكن طبيعية ولم يتم الاعتراف بنتائجها، التي كان سببها قانون الانتخابات الذي فُصّل وفق رؤية مقتدى الصدر ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وجرت الموافقة عليه في مرحلة عصيبة، كانت الأحزاب جميعها مشغولة بتداعيات تظاهرات تشرين، ولم تنتبه لبعض تفاصيله".
وأكمل مصطفى في اتصالٍ مع "العربي الجديد"، أن "الانتخابات الأخيرة أفرزت شريحة كان الشعب العراقي يعوّل عليها وهي النواب المستقلون الذين زادوا الطين بلة وذابوا بين طرفي الصراع، ولم يكونوا جزءاً من الحل"، معتبراً أن "حل الأزمة الحالية يكمن في الحوار بين جميع الأطراف، وتقسيم الأزمة ومعالجة كل جزء منها على حدة، لكن قد تصطدم الأحزاب ببعضها خلال مرحلة فتح ملف قانون الانتخابات الذي يرفض الصدر المساس به، وفتح ملف تعديل الدستور الذي يرفض الكرد، وتحديداً الحزب الديمقراطي الكردستاني، المساس به أيضاً".