الأزمة الجزائرية - الفرنسية: هل تدفع باريس الثمن؟

الأزمة الجزائرية - الفرنسية: هل تدفع باريس الثمن؟

10 أكتوبر 2021
أكد لعمامرة استعداد بلاده للمواجهة (الأناضول)
+ الخط -

شيئاً فشيئاً، تكبر كرة ثلج الأزمة بين الجزائر وفرنسا، وتتوسع من ساحة الفعل الدبلوماسي إلى مجالات اقتصادية وعسكرية. لكن أهم ما في الأزمة الراهنة، التي أجّجتها تصريحات للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أساءت لتاريخ الجزائر وللأمة الجزائرية، هو تحوّل مصدر الضغط من باريس إلى الجزائر التي استرجعت عامل المبادرة، واستخدمت أكثر من ورقة ضغط سياسي، وفي شكل عقوبات اقتصادية، إزاء باريس. ويجعل كلّ ذلك الأزمة مرشحة للتصعيد أكثر منها باتجاه التهدئة حتى الآن، خصوصاً بعدما رفعت الجزائر سقف المطالب إلى تقديم ماكرون، الذي أكد أخيراً أنه لن يصدر اعتذاراً عن الماضي الاستعماري لبلاده في أفريقيا، اعتذاراً رسمياً عن تصريحاته المسيئة للجزائر.

رفعت الجزائر سقف مطالبها إلى تقديم ماكرون اعتذاراً رسمياً عن تصريحاته المسيئة

"نحن مستعدون للمواجهة"، تلك كانت تصريحات وزير الخارجية الجزائري رمطان لعمامرة التي أدلى بها الخميس الماضي في العاصمة الإيطالية روما، والموجهة أساساً إلى باريس. وتأخذ هذه التصريحات معنى أكثر دلالة، عندما تصدر عن دبلوماسي كلعمامرة، المعروف عنه تشبعه باللياقة وهدوءه واتزانه الدبلوماسي، وتُحمل على وجه سياسي يقول إن الجزائر لا تبدو هذه المرة مستعدة لتقديم أي تنازلات في الأزمة الجديدة مع فرنسا، وإن حسابات الربح والخسارة باتت بيدها. ويأتي ذلك في وقت عزّزت فيه الجزائر شراكاتها مع دول أوروبية منافسة لفرنسا في شمال أفريقيا، كألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، في الوقت الذي تمر فيه باريس بسلسلة من الهزائم السياسية الفادحة، تبدأ في ليبيا ومالي، ولا تنتهي بصدمة الغواصات الأسترالية ثم الباكستانية، وهي تفاصيل وضعتها الجزائر في حساب الموقف الراهن واختيار توقيت التصعيد.

ما يؤكد ذلك قول رمطان لعمامرة أيضاً إن "الرد لا يكون بالخرجات الإعلامية، بل بالطرق الدبلوماسية العملية التي تحفظ سيادتنا". وبغض النظر عن قرارات جزائرية تبدو غاية في الجرأة، قياساً بطبيعة العلاقات مع فرنسا، ومنها إغلاق الأجواء الجزائرية في وجه الطائرات العسكرية الفرنسية ومنع تزودها بالوقود في جنوبي الجزائر، ومنع البواخر العسكرية الفرنسية من الرسو في الموانئ الجزائرية، وإلغاء زيارات وفود عسكرية، والاستدعاء العاجل للسفير الجزائري من باريس، محمد عنتر دواد، فإن تصريحات لعمامرة يفهم منها أن بلاده بصدد قرارات أخرى غير معلنة في العلاقة مع فرنسا، قد تأخذ في الغالب الشقّ الاقتصادي الذي يعد المكون الأساس للامتيازات التي كانت تتمتع بها فرنسا في الساحة الجزائرية.

وسبق الأزمة الحالية بين البلدين، بدء السلطات الجزائرية تطبيق عقوبات اقتصادية غير معلنة ضد باريس، كمنع شركة "توتال" الفرنسية من شراء أسهم في شركة "أنادراكو" النفطية الأميركية (أصول الشركة في الجزائر)، إذ هيمنت شركة "سوناطراك" الجزائرية على الأسهم. وجاء ذلك بالإضافة إلى إنهاء عقد عدد من الشركات الفرنسية العاملة في الجزائر، كشركة إدارة مترو الأنفاق في العاصمة، وشركة فرنسية كانت تدير مطار الجزائر الدولي، وأخرى تعمل في قطاع المياه. كما ألغت الجزائر عقود مكاتب دراسات، وقرّرت التحول نحو دول أخرى كروسيا لتوريد القمح بدلاً من فرنسا، ضمن مسار من التحولات دفعت باريس إلى صف متأخر في لائحة الشركاء التجاريين للجزائر، بعدما كانت الأولى على رأس اللائحة التي تتصدرها الآن الصين، وتليها تركيا. كما تراجعت أيضاً إلى صف متأخر أيضاً في لائحة أكبر الاستثمارات الأجنبية في الجزائر، بعدما كانت الأولى على اللائحة التي تتصدرها اليوم تركيا.

وتعليقاً على ذلك، يرى عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري، عبد السلام باشاغا، أن باريس أخطأت هذه المرة في قراءة تحولات الواقع السياسي في الجزائر، وربما كانت تعتبر أن المسألة ستكون لحظة سياسية عابرة. ويضيف باشاغا، في تصريحات لـ"العربي الجديد"، أن "ماكرون الذي تعمّد إطلاق تصريحاته المستفزة تلك، ثم خرج يطلب التهدئة ظناً منه أنها ستكون أزمة عابرة كسابقاتها، يبدو أنه فوجئ بالرد الرسمي هذه المرة، والذي كان على مستوى كبير من الوضوح والحزم". ويعرب باشاغا عن اعتقاده بأن الأمور "لا تتجه نحو تهدئة في القريب العاجل، على الرغم من محاولة ماكرون الأخيرة طلب تجاوز الأزمة التي وصفها بالعاطفية، والذهاب للحوار، بل أن تتوجه نحو تصعيد دبلوماسي أكثر، ولعل التصريحات المتتالية لوزير الخارجية رمطان لعمامرة من مالي ثم من روما، والتعبيرات السياسية الحادة التي استخدمها كاتهامه ماكرون والمسؤولين الفرنسيين بإفلاس الذاكرة وغيرها، دليل على أن مستويات الغضب في الجزائر من تصريحات ماكرون ومن التبريرات السياسية التي أعطتها باريس لقرار خفض التأشيرات للرعايا الجزائريين، بلغ هذه المرة مستوى غير مسبوق، إذا ما أضيفت إليه تراكمات كبيرة للمواقف الفرنسية ضد الجزائر". ويعتبر عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري، أنه "يتعين على الرئيس الفرنسي أن يفهم أن سقطته السياسية الأخيرة في حق الجزائر خطيرة، وتجاوزت كل الخطوط، وليس لها أي مبرر، خصوصا أنها جاءت ربما للمرة الأولى من مسؤول رسمي فرنسي بمستوى رئيس دولة".

تظهر مؤشرات جدية على إمكانية إصدار البرلمان الجزائري قانون تجريم الاستعمار

ويدخل ضمن الضغط الجزائري على باريس، ظهور مؤشرات جدية على إمكانية إصدار البرلمان الجزائري قانون تجريم الاستعمار، بخلاف المرات السابقة العديدة التي أخفق فيها في إصدار هذا القانون، خصوصاً أن الفرصة الحالية مواتية لمثل هذه الخطوة في سياق توافق وإجماع سياسي داخلي على ذلك. واتفقت خمس كتل نيابية في البرلمان، وهي حركة "مجتمع السلم" التي تقود المبادرة، وحركة "البناء الوطني" و"جبهة المستقبل" و"صوت الشعب" وجزء من كتلة المستقلين، على توقيع مسودة القانون وتمريرها إلى جلسة النقاش العام، في انتظار موقف كتلة "جبهة التحرير الوطني" التي تنتظر إشارة سياسية من السلطة بشأن ذلك.

بعض القراءات السياسية تذهب إلى الاعتقاد بأن السلطة السياسية في الجزائر، هي نفسها كانت تبحث عن فرصة تكون مبرراتها قوية للضغط على باريس، ليس فقط لخوض معركة جدال سياسي مع فرنسا تحظى فيها السلطة في الغالب بإسناد سياسي محلي في كل ما له علاقة بمعارضة فرنسا، ولكن أيضا لإعادة ضبط وحلّ عدد من الملفات العالقة، بدءاً بملف الذاكرة بكل تفرعاته وصولاً إلى اتفاقيات التعاون التي يجب إعادة تعديلها بما يضمن مصالح الجزائر بشكل ندي لا تبعي. غير أن هناك ما هو أهم بالنسبة للسلطات الجزائرية في الوقت الحالي، وهو ملف تنظيم "الماك" الانفصالي الذي تصنفه الجزائر بالإرهابي، وتتمركز قياداته في باريس ويحظى بدعم منها، وكذلك ملف ناشطين معارضين ينتمي بعضهم إلى حركة "رشاد" المصنفة في الجزائر إرهابية أيضاً، والذين يهاجمون بشكل يومي الجيش وأجهزة الأمن الجزائرية، وتطالب السلطات الجزائرية باريس بتسليمهم للقضاء الجزائري، بعدما صدرت في حقهم أوامر قبض دولية.

ويضع مراقبون منطقة شمالي مالي والنيجر، ضمن دائرة تشملها الأزمة الجزائرية - الفرنسية، بل إن هناك من يربط بين قرار وزارة الخارجية المالية استدعاء السفير الفرنسي، جويل ميير، للمرة الأولى في تاريخ العلاقات بين باماكو وباريس، وذلك على خلفية تصريحات أخرى لماكرون دعا فيها إلى "عودة الدولة في مالي"، وبين الزيارة الطارئة التي قام بها لعمامرة إلى باماكو في اليوم نفسه. ويرى الباحث المتخصص في الشؤون الأمنية، مولود ولد الصديق، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن "هناك تحركات جزائرية لافتة في منطقة الساحل، حيث تجذر التمركز الفرنسي، وقرار غلق الأجواء أمام الطيران العسكري الفرنسي ومنع تزويده بالوقود، ليس مجرد رد سياسي، وإنما يدخل في سياق رغبة جامحة للجزائر عبّرت عنها في أكثر من مناسبة، لاستبعاد الوجود الفرنسي من شمال مالي القريبة من الحدود الجزائرية، باستغلال أيضاً الرفض الشعبي المتصاعد إزاء الوجود الفرنسي في مالي والنيجر". ويضيف الصديق أن "ذلك يفسر عودة الجزائر أخيراً إلى خطاب الدفاع عن أفريقيا والأفارقة في سياستها الإقليمية"، معرباً عن اعتقاده بأن الجزائر "لن تجد فرصة أفضل من الوضع الحالي، لدفع السلطة في باماكو إلى تقليص النفوذ الفرنسي في مالي كما في النيجر، وباستغلال دخول فواعل دولية إلى المنطقة كتركيا في النيجر وروسيا في مالي".

المساهمون