استقالة كورتس: نموذج لتحايل اليمين المتطرف

استقالة كورتس: نموذج لتحايل اليمين المتطرف

11 أكتوبر 2021
أعلن كورتس استقالته السبت (غيورغ هوكموث/فرانس برس)
+ الخط -

على الرغم من أنّ البرامج السياسية والوعود الانتخابية تؤدي دوراً في اختيار الأوروبيين لحكامهم، إلا أن أشياء أخرى لعبت دورها في حياة المستشار النمساوي الشاب سيباستيان كورتس (35 عاماً)، والذي شغل منصب وزير الخارجية وهو في الـ27 من عمره. استطاع كورتس خلال صعوده الصاروخي، قبل أن يضطر إلى الاستقالة تحت مطرقة قضية فساد واستغلال منصبه، أن يكسب قلوب كثر بجاذبيته الشخصية وحرصه الشديد على مظهر له دلالاته في تفكير معسكر اليمين القومي، تحديداً المتشدد منه. تلك الجاذبية لها دورها في أوروبا باختيار الشخصيات الحزبية، كما تشير العديد من التقارير التي تقيس شعبية ساسة اليمين المتشدد في طريقة الاستعراض أمام الجمهور. القضية الأخرى والأكثر حسماً لاكتساب شعبية محلية وأوروبية: التشدد في سياسة الهجرة. في السياق، راهن معسكر التطرف القومي الأوروبي على رفع شعبيته بخطاب يظهره كمعسكر "حازم" في "الحفاظ على مصالح القارة الأوروبية"، مع اعتماد تعابير متطرفة.

أول من أمس السبت، وتحت وقع تهديد حزب "الخضر" بفرط عقد ائتلاف جمعه بحزب "الشعب النمساوي" المحافظ بزعامة كورتس، اختار الأخير الاستقالة من منصبه كمستشار، من دون أن ينسى لازمة "استقالتي للحفاظ على الاستقرار السياسي في بلادي". ولم ينسَ التذكير أنه "بريء" و"سأثبت براءتي" من اتهامات طاولته شخصياً في مسلسل ليس بجديد على هذا المعسكر، بعد ضبطه بموجب تسريب وتحقيق أمني من وزارة العدل لقيامه بتبذير أموال الشعب على حملات الدعاية لتلميع شخصيته وتلميع حزبه في فيينا وبعض أنحاء أوروبا. وتحوّلت الصحافة إلى فخ لمعسكر اليمين القومي، بعدما كانت مدخلاً له إلى القارة.

كورتس مُتهم بتبذير أموال الشعب من أجل تلميع صورته

وسبق أن ضُبط نائب المستشار النمساوي، هانز كريستيان شتراخي، في إيبيزا الإسبانية يفاوض سيدة يفترض أنها مندوبة عن طبقة الأوليغارشية الروسية، للاستحواذ على الصحافة، من أجل تلميع تحالف الحكم والتخفيف من السياسات التحريرية المنتقدة لموسكو. وفي عام 2019 كُشف عن الفخ المصور سراً في إحدى الفيلات السياحية الإسبانية في عام 2017، فاضطر شتراخى للاستقالة، وخرج حزبه المتشدد "الحرية"، من الائتلاف الحاكم.

ومجدداً، كشفت الصحافة عن "فضيحة تلميع" صورة كورتس بأموال دافعي الضرائب، وهي عملية بدأت في عام 2016 واستمرت حتى وقت قريب، من خلال مساع لشراء سياسة تحريرية تلمع صورة "الزعيم" وحزبه. وكورتس المتشدد حيال سياسات أوروبا مع المهاجرين والمسلمين، بنى تعاوناً مع يسار الوسط الدنماركي، بزعامة رئيسة الحكومة ميتا فريدركسن، التي تخلط بين مواقفها اليمينية الشخصية وجر معسكر يسار الوسط في كوبنهاغن إلى حافة التطرف القومي، ما خلق توترات مكتومة في حزبها. ففي كوبنهاغن، كان بعض الوزراء النمساويين والدنماركيين يسعون لإيجاد دول أفريقية تقبل بناء معسكرات استقبال لجوء. حينها، لم يتردد وزير الهجرة في الدنمارك، ماتياس تيسفاي، بتكرار رغبته في تبني بلاده سياسة وخطاب التشدد في فيينا، مثلما كانت الأخيرة تستحضر تجربة كوبنهاغن عن "صفر لاجئين" كعنوان لتبرير تطرف ساسة اليمين المتشدد. وحتى في أوج تفشي وباء كورونا بدا المشهد غير سوي: رحلة مشتركة بين "اجتماعية ديمقراطية"، أي فريدركسن، وقومي متشدد، أي كورتس، نحو تل أبيب، مُستقبلين من رئيس حكومة الاحتلال السابق، بنيامين نتنياهو، الملاحق بدوره بأزمات وقضايا فساد. الاستعراض الثلاثي عن "تحالفهم"، أثار انتقادات كبيرة في كوبنهاغن وصحافتها، لناحية اصطياد طرفين لفرصة تلميع ذاتي، أي نتنياهو وكورتس، فيما انتهازية فريدركسن تتعرض حتى اليوم إلى أقسى الانتقادات بشأن سياستها في مواجهة الوباء، مع استعادة وسائل الإعلام "فضيحة إعدام ملايين حيوانات المنك"، في خريف 2020. تواجه فريدركسن سيلاً من التحقيقات الحزبية والإعلامية عن مغزى تقاربها من اليمين المتشدد في النمسا وتحالفها مع نتنياهو، وادّعاء فوائد لم يستطع أحد الإجابة عليها، لا في حكومتها ولا في الصحافة.

في التاريخ النمساوي خصوصاً، والأوروبي عموماً، لم تكن قضية الفساد التي حامت أخيراً حول كورتس استثنائية، بل مكررة في أكثر من مناسبة. وتؤدي هنا الصناديق دوراً هاماً في معاقبة الجمهور لسياسييه، إذ قبل ساعات على موعد الاستقالة أعاد معسكر كورتس لعبة اليمين القومي المفضلة: إنها مؤامرة سياسية تقودها خلايا اليسار المتطرف. تلك "المؤامرة" واحدة من دروس الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، ففي تحالف التطرف الأوروبي، الذي يشمل المؤمنين بفكرة استعادة أمجاد "الرايخ الألماني" والفاشية الإيطالية والإسبانية والقومية المتطرفة في فرنسا. جميعهم استفادوا من ذراع ترامب، مستشاره الخاص السابق، ستيف بانون، لبناء أرضية تحالفات لتسوّقهم عبر الإعلام التقليدي، والحديث من جنوب القارة إلى النرويج شمالاً، والعين على جعل القارة العجوز تستعيد بعض شبابها بشعبوية متطرفة. ولا ضير هنا أن يكون المهاجرون والمسلمون هدفاً لاستلهام معسكر التطرف أفكار "وقف أسلمة القارة" و"الدفاع عن البيض" لإقناع الناخبين أنه المعسكر "الأكثر وطنية"، والمهتم بالحفاظ على "هوية أوروبا" الدينية والقومية.

أعاد معسكر كورتس لعبة اليمين القومي المفضلة: إنها مؤامرة سياسية تقودها خلايا اليسار المتطرف

ففي القارة التي تواجه معضلة هوية، بالتركيز الرومانسي على النقاء والتجانس العرقي، تبرز أهمية دور الإعلام والسيطرة عليه. والمتفحص لخطاب السياسيين المتشددين، إن في المجر أو بولندا وسلوفاكيا، وحتى إيطاليا وفرنسا وألمانيا، وصولاً إلى السويد والدنمارك، وغيرهم حول القارة، سيجدهم يلهثون وراء الاستحواذ على الإعلام. وهؤلاء يعتبرون التلاعب بالجماهير مبرراً، وإن لم يستطيعوا إليه سبيلاً، يتحدثون عن "الاضطهاد"، مع إشاعة خطاب "المؤامرة" بحق وسائل الإعلام، واعتبارها في لغة مشتركة مثيرة للانتباه، مجرد "أذرع يسارية"، وإن كان الحديث عن هيئات بث عام ممولة بالضرائب. قد تبدو استقالة كورتس "مؤقتة"، إذ أعلن أنه مستمر في البرلمان وفي قيادة حزبه، لكن فيينا على موعد اليوم الإثنين، مع تصويت لحجب الثقة عن الحكومة الحالية، وهو ما يمكن أن يفتح الأبواب أمام انتخابات مبكرة تطيح بأحلام كورتس السياسية. فمعنى أن تشتري تغطية صحافية تجمّل استطلاعات الرأي وبث "بروباغندا" لا مصداقية لها عن "إنجازات" شخصية وحزبية، على الأقل في بعض الصحف المحلية والأوروبية، يضع الناس أمام مسؤولية مواجهة الحقيقة كما هي: إن المسألة متعلقة بالفساد فحسب.