استئناف الاتصالات الجزائرية الفرنسية: التطبيع سابق لأوانه

استئناف الاتصالات الجزائرية الفرنسية: التطبيع سابق لأوانه

22 يونيو 2022
جزائريون يرفعون شعارات معارضة لفرنسا خلال تظاهرة في الجزائر،2021 (رياض كرامضي/فرانس برس)
+ الخط -

تشهد العلاقات الجزائرية الفرنسية عودة حذرة إلى منسوبها الطبيعي. على الأقل هذا ما تفسره سلسلة الاتصالات السياسية الأخيرة بين البلدين، والمكالمات الهاتفية بين الرئيسين الجزائري والفرنسي؛ عبد المجيد تبون وإيمانويل ماكرون، على أمل تجاوز تداعيات أكبر أزمة تشهدها العلاقات بين البلدين منذ الاستقلال، وذلك منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حين أدلى ماكرون بتصريحات اعتبرتها الجزائر مسيئة إليها.

الجزائر - فرنسا: خلافات عالقة واتصالات غير كافية

ولكن الاتصالات السياسية الحالية لا تبدو كافية لتسوية الخلافات، خصوصاً في ظل متغيرات كثيرة في الداخل الجزائري، وفي السياسات والتوجهات الأخيرة للجزائر، وخسارة كبيرة لباريس لمصالحها في هذا البلد، لصالح أطراف أخرى، كالصين وتركيا وإيطاليا وروسيا.
وتبذل باريس، منذ يناير/ كانون الثاني الماضي، مزيداً من المساعي السياسية لإصلاح الخلل الطارئ في العلاقات بين البلدين، بعد أزمة نتجت عن تصريحات الرئيس الفرنسي والتي قال فيها إن "الجزائر لم تكن أمّة قبل الاستعمار، والرئيس تبون رهين نظام عسكري".

ودفع ذلك الجزائر إلى وقف الاتصالات الدبلوماسية مع باريس، واستدعاء سفيرها محمد عنتر داود للتشاور، وإغلاق مجالها الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية. وأوفدت باريس وزير الخارجية في ذلك الحين جان إيف لودريان على مرتين في يناير وإبريل/ نيسان الماضيين إلى الجزائر، كما عاد السفير الجزائري إلى باريس.

تبذل باريس، منذ يناير الماضي، مساعي سياسية لإصلاح الخلل الطارئ في العلاقات بين البلدين

وتواصل ماكرون وتبون هاتفياً مرتين منذ أكتوبر الماضي، وذلك في إبريل بعد فوز ماكرون بولاية ثانية، ويوم السبت الماضي في 18 يونيو/ حزيران الماضي. كذلك جرى اتصال بين وزيرة الخارجية الفرنسية المعينة حديثاً، كاثرين كولونا، ونظيرها الجزائري رمطان لعمامرة، مع الكشف عن ترتيب لزيارة مرتقبة للرئيس الفرنسي إلى الجزائر قبل نهاية العام الحالي.

تغيرات متلاحقة للسياسة الجزائرية

لكن الحديث عن تجاوز أزمة أكتوبر الماضي، وعودة العلاقات إلى طبيعتها، يبدو أمراً سابقاً لأوانه. ويرجع ذلك إلى عوامل داخلية تخصّ الجزائر في الأساس، والتي يبدو أنها حسمت توجهاتها الاستراتيجية وشراكاتها المستقبلية، من دون أن تكون فرنسا طرفاً فيها. وتجد الجزائر في تركيا والصين وإيطاليا وألمانيا وروسيا شركاء أكثر نفعاً وبراغماتية.

وإضافة إلى هذا المتغير الاقتصادي، يتدخل عامل سياسي في توجه العلاقات الجزائرية – الفرنسية. فمنذ اندلاع الحراك الشعبي في الجزائر (2019) فقدت باريس نقاط اتصال مركزية في صلب السلطة ودوائر صناعة القرار في الجزائر، بعد إطاحة أبرز الشخصيات السياسية ورجال الكارتل المالي الذين كانوا على صلة حيوية بالمصالح الفرنسية.

ومع التغيرات السياسية المتلاحقة في الجزائر بعد الانتخابات الرئاسية تحديداً، وانتخاب الرئيس عبد المجيد تبون في ديسمبر/ كانون الأول 2019، وقع توافق بين الرئاسة والمؤسسة العسكرية على التوجه شرقاً، واستبعاد فرنسا من لائحة الشراكات السياسية والاقتصادية للجزائر.

وتجسّد ذلك بوضوح من خلال إنهاء عقود شركات فرنسية كانت تدير قطاعات حيوية في الجزائر، كمطار وميترو أنفاق العاصمة الجزائرية، وفي قطاع المياه والنفط وغيرها. ويعني ذلك أن أزمة أكتوبر الماضي التي نتجت عن التصريحات المثيرة للجدل لماكرون بشأن الجزائر، وجدت ظروفاً مهيأة لتعقيد العلاقات أكثر مما هي معقدة في الأساس.

بالنسبة لباريس، فإن الظرف يفرض عليها التحول إلى حالة من "المقاومة" لإبقاء حدّ مقبول من مصالحها الاقتصادية والسياسية في الجزائر، بعد تمركز لافت لقوى تنظر إليها باريس بكثير من الريبة، تحديداً الصين وتركيا خصوصاً. ويضاف إلى ذلك التحالف الجزائري الروسي في منطقة الساحل، فضلاً عن اتخاذ الجزائر من إيطاليا؛ منافسة فرنسا في المتوسط، مرتكزاً رئيسياً لها في الضفة الشمالية للمتوسط.

كذلك يتدخل سياق إقليمي في تفسير المساعي الفرنسية لتسوية العلاقات مع الجزائر. فتطورات الوضع القائم دولياً وإقليمياً المرتبطة بأزمة الطاقة من جهة، والأزمة الراهنة بين الجزائر ومدريد من جهة ثانية، تعطي باريس فرصة مناسبة لضمان مصالحها من الجانب الجزائري، واستعادة مستوى من العلاقات يضمن توازناً لحاجيات فرنسا.

تبذل باريس، منذ يناير الماضي، مساعي سياسية لإصلاح الخلل الطارئ في العلاقات بين البلدين

وبرأي المحلل السياسي علاء الدين بونجار، الذي تحدث مع "العربي الجديد"، فإن "هذا ما يفسر وجود رغبة من قبل باريس في إحداث دفع جديد في العلاقات بين البلدين بعد أزمة هي الأخطر بينهما". وأعرب عن اعتقاده بأن تصريحات ماكرون جعلت باريس تدرك أنها تجاوزت بعض الخطوط الحمراء، على اعتبار أنها أحدثت إجماعاً لدى السلطة والمعارضة ومجموع القوى الجزائرية برفضها.

وأضاف بونجار أن باريس "قدمت اعتذاراتها السياسية بشكل ما، لأن هناك معطيات مهمة يمكن أن تضع الجزائر في صلب التوازنات في الوقت الراهن، لا سيما في ما يتعلق بأزمة الطاقة". وأوضح أن "باريس تدرك أن للجزائر ثقلها الطاقوي، ومع توارد الأخبار عن قطع روسيا الغاز عن دول أوروبية، فإن باريس تسعى لتأمين حاجياتها وحاجيات القارة الأوروبية من الجزائر، وتود أن تؤدي دوراً ريادياً لمنع تطور الأزمة بين الجزائر ومدريد نحو ملف الغاز".

تحركات مكبّلة لماكرون

ولفت المحلل السياسي نفسه إلى أن "الجزائر، كما باريس، ترغب بدورها في تحقيق مكاسب سياسية لصالحها، ومطالب جيوسياسية وحيوية لها، ما يجعل حلّ كل المشكلات بين البلدين بثمن". لكن بونجار أشار إلى معطيات سياسية تخصّ الداخل الفرنسي قد تؤثر على مسار العلاقات، منبهاً إلى أن "إعادة انتخاب ماكرون بنسبة غير مطمنئة وخسارته للأغلبية النيابية (في الانتخابات التشريعية التي حصلت دورتها الثانية في 19 يونيو الحالي)، ستكبّل أي تحركات فرنسية في اتجاه الجزائر، خصوصاً مع وجود كتل يمينية لا ترتاح للعلاقات مع الجزائر".

ورأى بونجار "ضرورة انتظار اللقاء المرتقب بين ماكرون وتبون في الجزائر أو في باريس لمعرفة الاتجاهات الكبرى للعلاقات، خصوصاً أن هناك الكثير من الملفات العالقة، أبرزها ملف الذاكرة، وهو ملف نعتبر أن ماكرون هو من أكثر الرؤساء الفرنسيين الذين أحدثوا تقدماً كبيراً بشأنه، ولديه رغبة في إزالة كل العقبات أمام العلاقات بين البلدين".

تحسّن العلاقات لن يكون سهلاً بالنظر إلى عوامل داخلية تخصّ الجزائر ومنها حسمها توجّهاتها وشراكاتها 

ويستمر كلا البلدين في التمسك بمواقف صارمة نتجت عن الأزمة الأخيرة، على غرار رفض الجزائر حتى الآن إصدار وثائق سفر لصالح المهاجرين الجزائريين المقيمين بطريقة غير قانونية، ما يعني تعطيل ترحيلهم ورفض استقبالهم، وهو أمر كان سبباً رئيسياً في أزمة أكتوبر.

كما أن تهديدات ماكرون ووزارة الداخلية الفرنسية برفض منح التأشيرات للمسؤولين الجزائريين وعائلاتهم، لا تزال سارية حتى الآن. فقد رفضت مصالح القنصلية الفرنسية منح التأشيرات لـ150 نائباً في البرلمان الجزائري وعدد من المسؤولين في الدوائر الحكومية. هذه المعطيات تؤكد أن مستوى الأزمة لا يزال قائماً، وأن أياً من البلدين لم يتخذ الخطوات اللازمة التي يمكن أن تؤشر إلى انفراجة جدية.

وقال عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري، والنائب عن الجالية الجزائرية في فرنسا، عبد الوهاب يعقوبي، لـ"العربي الجديد"، إن هناك معطيات سياسية واجتماعية، بحكم وجود جالية جزائرية كبيرة في فرنسا، تفرض في الغالب مستوى من العلاقات والتواصل السياسي. مع ذلك، فإن تجاوز تداعيات أزمة أكتوبر الماضي ليس بالأمر السهل، خصوصاً أن تصريحات ماكرون بحق الجزائر سبّبت جرحاً كبيراً لكرامة الجزائريين، على حد وصفه.

وبرأي يعقوبي، في تصريح له لـ"العربي الجديد"، فإنه "ليس من السهل تجاوز تداعيات ومخلفات الأزمة الأخيرة، إذ إن تصريحات الرئيس الفرنسي شكّلت كارثة سياسية فعلية، وباعدت المسافة بين الجزائر وباريس". ورأى أنه "حتى إذا عادت الاتصالات السياسية والزيارات بين مسؤولي البلدين، وجزء منها ذو طابع بروتوكولي، فإن هذا لا يعني أننا نتجاوز المشكلات القائمة".

وشّدد عضو لجنة الشؤون الخارجية في البرلمان الجزائري على أن "هناك الكثير من القرارات من مخلفات الأزمة التي لا تزال نافذة، على غرار رفض الجزائر ترحيل رعاياها من المقيمين غير شرعيين، ورفض باريس تيسير حصول المسؤولين الجزائريين على التأشيرات".


 

المساهمون