ازدواجية ألمانيا بشأن غزة.. إدانة الحرب والتضييق على المتضامنين مع فلسطين

31 اغسطس 2025   |  آخر تحديث: 12:30 (توقيت القدس)
تظاهرة تضامنية مع غزة في فرانكفورت، 22 يونيو 2024 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- شهدت فرانكفورت تظاهرة حاشدة ضد الحرب الإسرائيلية على غزة، حيث شارك فيها أكثر من عشرة آلاف متظاهر رغم محاولات السلطات منعها. لجأ المنظمون للقضاء الذي سمح بإقامتها، مع الإشارة إلى مخالفات محتملة تتعلق بالتحريض على الكراهية.
- تتعارض السياسات الأمنية الألمانية مع الخطاب الرسمي الداعي لوقف الحرب، حيث تُستخدم ذرائع أمنية لتقييد النشاطات المؤيدة لفلسطين، مما يثير مخاوف حقوقية بشأن حرية التعبير.
- تبرر ألمانيا دعمها لإسرائيل بمسؤوليتها التاريخية تجاه اليهود، لكن هذا يواجه انتقادات متزايدة، مما يعمق الهوة بين الحكومة والمجتمع المدني.

شهدت مدينة فرانكفورت الألمانية، يوم أمس السبت، تظاهرة حاشدة، برغم محاولات منعها، وشارك فيها أكثر من عشرة آلاف متظاهر، احتجاجاً على استمرار الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة. وتُعدّ هذه المسيرة واحدة من أكبر الفعاليات المؤيدة لفلسطين التي عرفتها ألمانيا منذ اندلاع حرب الإبادة في أكتوبر/تشرين الأول 2023. ومع أن الشرطة أكدت أن المظاهرة جرت بسلمية، لكن تنظيمها واجه عراقيل كبيرة، إذ حاولت السلطات المحلية حظرها مسبقاً، بدعوى "الخوف من اندلاع اضطرابات" نتيجة التوتر بين المؤيدين لفلسطين والداعمين لإسرائيل، غير أن المنظمين لجؤوا إلى القضاء، الذي رفض قرار الحظر، مشدداً على أن تقييم الشرطة لا يُثبت وجود "خطر داهم" يبرر تقييد الحق في التظاهر، ما أتاح إقامة المظاهرة بصورة قانونية.

من جانبها، قالت شرطة فرانكفورت، في بيان، إن المسيرة كانت سلمية بشكل عام، لكنها أرفقت ذلك بإشارات إلى مخالفات محتملة، متحدثة عن "التحريض على الكراهية"، و"الموافقة على ارتكاب جرائم"، و"استخدام رموز منظمات مخالفة للدستور"، من دون تقديم تفاصيل دقيقة حول طبيعة هذه الشعارات أو الرموز. ولطالما استخدمت الذرائع الأمنية لفض بعض الأنشطة، سواء في الشارع أو داخل القاعات، على شكل مؤتمرات متعلقة بفلسطين، حيث تُعد هذه اللغة الاتهامية جزءاً من الخطاب الأمني الذي بات مألوفاً في تعامل السلطات الألمانية مع النشاطات المؤيدة لفلسطين، حيث تُربط مظاهر التضامن غالباً بتهم مثل "معاداة السامية" أو "التطرف"، في توجه يُثير مخاوف حقوقية متزايدة بشأن حرية التعبير.

خطاب دبلوماسي وتوجّس من العلم الفلسطيني

يتعارض هذا النهج الأمني مع الخطاب الرسمي الصادر عن الحكومة الألمانية، الذي يُعبّر عن "قلق إنساني" ويدعو إلى "وقف الحرب" و"تحسين الوضع في غزة"، كما ورد في تصريحات وزير الخارجية يوهان فادفول خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي أمس، فالأنشطة في الشارع لا تحيد أصلاً عن المطالبة بوقف حرب الإبادة وحروب التجويع والتطهير العرقي واستهداف الصحافيين والمستشفيات.

وفي الوقت الذي تزعم فيه برلين سعيها عبر الحوار إلى الضغط على حكومة بنيامين نتنياهو، تعرقل أوروبياً خطوات عقابية ضد الاحتلال، وتنتهج داخلياً سياسات مشددة تُضيّق على الأصوات المتضامنة مع فلسطين، وتُجرّم شعارات أو رموزاً مثلما حاولت في 2023 مع العلم الفلسطيني، والتضييق تحديداً على إحياء ذكرى النكبة الفلسطينية كل عام، باعتبارها أنشطة "استفزازية" أو "تحريضية"، ما يعكس تناقضاً صارخاً بين الخطاب السياسي والممارسة على الأرض.

ومنذ بدء العدوان على غزة، تشهد ألمانيا حملة واسعة من الإجراءات التقييدية بحق النشاطات المؤيدة لفلسطين. فقد مُنعت مظاهرات، وأُلغيت فعاليات أكاديمية وثقافية، وحُظر رفع العلم الفلسطيني في بعض الولايات، فضلاً عن ملاحقات قانونية بحق ناشطين، وكل ذلك تحت مبررات "الحفاظ على النظام العام" أو "مكافحة التطرف". ويحذّر مراقبون من أن هذه السياسات تُشكّل محاولة ممنهجة لتجريم التضامن مع فلسطين، وتجعل من أي نقد للسياسات الإسرائيلية مدخلاً لتوجيه تهم خطيرة، بما يهدد مساحة التعبير السياسي والمدني داخل واحدة من أكبر الديمقراطيات الأوروبية.

المسؤولية التاريخية... على حساب الحاضر؟

ولطالما بررت ألمانيا دعمها غير المشروط لإسرائيل بـ"المسؤولية التاريخية" تجاه اليهود، في ظل موروث الجرائم النازية في الحرب العالمية الثانية. وقد عبّر الوزير فادفول أمس عن هذا الموقف بقوله: "لا يُتوقع من ألمانيا أن تكون أول من ينتقد إسرائيل، بل قد تكون الأخيرة"، لكن هذا المنطق الذي يستحضر الماضي لتبرير الصمت على الحاضر، لم يعد مقبولاً لدى شريحة متزايدة من المجتمع الألماني، خصوصاً بين الشباب، والجاليات العربية والمسلمة، وأوساط اليسار والنقابات. هؤلاء باتوا يطالبون بسياسة خارجية أكثر توازناً، تعكس التزاماً حقيقياً بحقوق الإنسان، لا خضوعاً لسرديات سياسية مؤبدة.

قمع الحراك لا يُطفئ الغضب

ورغم القيود المتزايدة، جاءت تظاهرة فرانكفورت لتؤكد أن التضامن مع فلسطين لم يُقهر، بل على العكس، يُوسّع تزايد القمع من دائرة الغضب الشعبي ويعمّق الهوة بين الحكومة الألمانية ومجتمع مدني بات أكثر وعياً بالقضية الفلسطينية وأشد رفضاً للازدواجية في الخطاب السياسي.

وفي الوقت الذي تتخذ فيه دول أوروبية مثل إسبانيا، وأيرلندا، وبلجيكا خطوات متقدمة لمحاسبة إسرائيل عبر القنوات الدبلوماسية والقانونية، لا تزال ألمانيا متمسكة بموقف جامد يُغذي الإحباط الداخلي ويضعف موقعها الأخلاقي على الساحة الأوروبية والدولية.

وفي المحصلة، تَبرز مظاهرة فرانكفورت حدثاً رمزياً، يُسلّط الضوء على التناقض الجوهري في السياسة الألمانية: بين خطاب يدّعي الدفاع عن "السلام والعدالة"، وممارسات تقمع تلك المطالب حين تصدر من الشارع الألماني نفسه. هذا التناقض لا يُضعف فقط مصداقية برلين، بل يُقوّض ثقة مواطنيها في حياد مؤسساتها، ويطرح تساؤلات حرجة: هل باتت "المسؤولية التاريخية" غطاءً دائماً للتهرّب من مواجهة جرائم الحاضر؟ أم حان الوقت لفصل الحق من تلك السياسة؟

المساهمون