لم تفجّر قمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) التي اختتمت أعمالها في العاصمة الليتوانية فيلنيوس أول من أمس الأربعاء، مفاجآت كبيرة بالنسبة إلى موسكو، إذ لم يقدّم الغرب، كما كان متوقعاً، وعوداً واضحة لأوكرانيا بعضوية وشيكة في الحلف، رافعاً في الوقت نفسه مستوى التسليح، ومعلناً عن تخفيف إجراءات الانضمام وتقديم ضمانات أمنية طويلة الأجل لأوكرانيا من قبل مجموعة الدول السبع.
وقد أثار الدعم الغربي المتزايد لأوكرانيا في قمة فيلنيوس حفيظة موسكو، والتي توعّدت على لسان المتحدث الرسمي باسم الرئاسة الروسية ديمتري بيسكوف، بـ"ردّ حازم" في حال انضمام أوكرانيا إلى "ناتو".
وبالتزامن حذّر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي ديمتري ميدفيديف، من أن قرار الحلف زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا يقرّب حرباً عالمية ثالثة.
ومع ذلك، ثمة مؤشرات لارتياح روسي لنتائج القمة نظراً لما كشفته من انقسامات داخلية في الحلف بشأن مصير عضوية أوكرانيا واستياء الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، من ذلك. إلا أن هذا الارتياح يتخلّله انزعاج روسي من تسليم صواريخ "سكالب" الفرنسية بعيدة المدى للجيش الأوكراني، وتقلُّب موقف الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي دعم العضوية المستقبلية لأوكرانيا وقبل بعضوية السويد.
قمة انتصار أردوغان
واعتبر أستاذ العلوم السياسية في معهد موسكو الحكومي للعلاقات الدولية كيريل كوكتيش، في حديث لـ"العربي الجديد"، أن أردوغان بدا وكأنه المنتصر الوحيد في قمة "ناتو" بعد أن تمكّن من فرض شروطه للموافقة على قبول السويد إلى عضوية الحلف، مقللاً في الوقت نفسه من أهمية تأثير عضوية استوكهولم على أمن روسيا.
وأضاف كوكتيش أنه "كان يُخطَّط لقمة ناتو أن تكون قمة للمنتصرين يتم خلالها الاستماع إلى تقارير حول نجاح التقدم الأوكراني المضاد، وكيفية الحديث مع روسيا من موقع القوة". وأوضح أن "ذلك لم يتحقق، مما اضطر الحلف للتوصل إلى اتفاقات مع أردوغان بشأن قبول السويد من أجل حفظ ماء الوجه".
كيريل كوكتيش: الحلف توصّل لاتفاقات مع أردوغان لحفظ ماء الوجه
واعتبر كوكتيش أن أردوغان هو المنتصر الوحيد في القمة، مضيفاً أنه حصل على وعود بتسليم مقاتلات "أف-16" الأميركية ورفع العقوبات المفروضة على قطاع التصنيع العسكري التركي، ما يعني أنه تمكّن من فرض شروطه. وعلى حد تعبير كوكتيش، "صحيح أنه لم يتم الوفاء بطلبه المتعلّق بدعم انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي، ولكنه لم يكن يطمح في ذلك من أساسه، منطلقاً من مبدأ اطلب الكثير، فستحصل على شيء ما".
ومن اللافت أن التفاهمات الأخيرة بين تركيا وحلف الأطلسي تزامنت مع موجة من التوتر في العلاقات بين موسكو وأنقرة، إثر سماح أردوغان بعودة مقاتلي كتيبة "آزوف" القومية المتشددة إلى أوكرانيا، والغموض حول مصير "صفقة الحبوب" التي ينتهي سريان مفعولها في 17 يوليو/تموز الحالي.
ومع ذلك، قلّل كوكتيش من تأثير انضمام السويد إلى الحلف على أمن روسيا، بسبب بعدها الجغرافي النسبي، إذ إن المخاطر الأمنية الناجمة عن انضمام السويد أقل من تلك المتعلقة بعضوية فنلندا. وأضاف أن "روسيا لم تكن متوهّمة بحياد السويد، مدركة أنها كانت دولة مقرّبة من الحلف حتى من دون عضوية رسمية".
وجزم كوكتيش بأن روسيا لم تخرج طرفاً خاسراً من قمة "ناتو"، فالحلف أظهر بوضوح أنه غير مستعد لتحمّل مخاطر الدفاع عن أوكرانيا، "ولكنه ربما كان سيقبل إعطاءها العضوية في حال كانت تنتصر على الأرض".
من جهته، اعتبر الخبير في مركز بحوث قضايا الأمن التابع لأكاديمية العلوم الروسية قسطنطين بلوخين، هو الآخر أن روسيا تشعر بالاطمئنان لما تراه تقديم وعود لأوكرانيا بالعضوية في حلف الأطلسي، من دون نيّة قبولها على أرض الواقع.
قسطنطين بلوخين: أوكرانيا هي التي تحتاج إلى العضوية في الحلف
وقال بلوخين في حديث لـ"العربي الجديد" إنه "من البديهي للجميع أن مخرجات القمة معادية لروسيا، ولكن موسكو سعدت بل تحمست لوجود شخصيات في الحلف تتمتع بالعقل السليم ولا تريد حرباً عالمية ثالثة مع روسيا، لأن منح العضوية لأوكرانيا كان سيعني توريط دول حلف شمال الأطلسي في النزاع معها تلقائياً".
وأوضح أن "ناتو" لا يحتاج إلى أوكرانيا في حد ذاتها، مضيفاً أنه "تم تقديم وعود لأوكرانيا بالعضوية من دون النية لقبولها، لأن هناك منظومة تعاون قائمة بالفعل بين الحلف وكييف من جهة تسليح هذه الأخيرة". ولفت إلى أن "أوكرانيا هي التي تحتاج إلى العضوية في الحلف من أجل الاستفادة من إمكانياته وموارده المالية والحصول على تذكرة الدخول إلى النادي الغربي المغلق".
مواجهة الصواريخ الفرنسية
على الرغم من الارتياح الروسي العام لمخرجات قمة فيلنيوس إلا أنها لم تخلُ من نتائج مخيبة لآمال موسكو مثل إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عن تسليم صواريخ "سكالب" بعيدة المدى لأوكرانيا.
ومع ذلك، اعتبر الخبير العسكري وكبير الباحثين بمركز تحليل الاستراتيجيات والتكنولوجيا يوري ليامين، أن روسيا قادرة على مواجهة صواريخ "سكالب" بعد أن سجّلت سوابق لإسقاط صواريخ "ستورم شادو" البريطانية المماثلة.
يوري ليامين: روسيا قادرة على مواجهة صواريخ "سكالب"
ولفت ليامين في حديث لـ"العربي الجديد" إلى أن النسخة الفرنسية من الصواريخ هي من نفس صواريخ "ستورم شادو" التي تسلّمها بريطانيا بالفعل لأوكرانيا. وأوضح أن "هذه الصواريخ من التصميم المشترك، وكانت تنتج للقوات الجوية البريطانية كـ"ستورم شادو"، وللقوات الجوية الفرنسية كـ(سكالب إي جي)".
إلا أن ثمة تساؤلات حول مواصفات الصواريخ الفرنسية المورّدة إلى أوكرانيا، إذ أوضح ليامين أن المدى المعلن البالغ 250 كيلومتراً، هو مدى النسخة التصديرية من صاروخ "سكالب"، لافتاً إلى أن "فرنسا تسلّم حالياً صواريخ مجنّحة من قواتها المسلحة" قد يصل مداها الفعلي إلى 560 كيلومتراً.
وأوضح أن صواريخ "سكالب" مخصصة لإصابة أهداف مغطاة بوسائل الدفاع الجوي، مضيفاً أنه "من أجل هذا الغرض، أُنتجت مع تقليص مرئيتها للرادارات حتى تتمكن من التحليق على أدنى المرتفعات". ولفت إلى أنها "هدف صعب، ولكن يمكن تدميرها، وهناك أمثلة على تدمير صواريخ "ستورم شادو" التي سلمتها بريطانيا بواسطة وسائلنا (روسيا) للدفاع الجوي".
وبموازاة انضباط كبار المسؤولين الروس في تصريحاتهم خلال يومي قمة "ناتو"، برز تحذير مدفيديف، والذي تحوّل منذ بدء الحرب الروسية المفتوحة في أوكرانيا من سياسي ليبرالي إلى "صقر"، من أن قرار الحلف زيادة الدعم العسكري لأوكرانيا يقرّب حرباً عالمية ثالثة.
ورأى السياسي الروسي أن هذا القرار وغيره من قرارات "ناتو" (بشأن انضمام أوكرانيا إلى الحلف في المستقبل) لا تعني لموسكو سوى مواصلة العملية العسكرية بالأهداف السابقة، وأحدها هو تخلي كييف عن الانضمام إلى الحلف. وأضاف أنه نظراً لعدم عزم القيادة الأوكرانية فعل ذلك، "سنضطر إلى القضاء على هذه المجموعة".