هل يكون اتفاق المناصب السياسية بوابة التفاف جديدة على الخريطة الأممية في ليبيا؟
استمع إلى الملخص
- الاتفاق يثير تساؤلات حول دوافعه وتوقيته، خاصة مع عدم تعديل القوانين الانتخابية بالتوازي مع إعادة تشكيل المفوضية، مما يثير الشكوك حول نية المجلسين في تنفيذ الخطة الأممية.
- تواجه البعثة الأممية تحديات في تنفيذ خريطتها كحزمة واحدة، حيث تتعرض لعملية تفكيك تدريجية من قبل المؤسسات الليبية، مع تدخل القوى السياسية في العملية الانتخابية.
بينما لم يتبقّ إلّا عشرة أيام على انتهاء مهلة الشهرين التي حددتها بعثة الأمم المتحدة للمرحلة الأولى من خريطة الطريق السياسية، تتحرك القوى السياسية الليبية بخطوات تبدو قانونية ومنسجمة مع المسار الأممي، لكنها في جوهرها أقرب لمحاولات العرقلة والالتفاف. وتوصل مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة إلى اتفاق يقضي ببدء عملية تسمية شاغلي المناصب السيادية في الدولة، بعد مشاورات استمرت أسبوعين بين اللجنتين المكلفتين من المجلسين، وانتهت بتوقيع محضر رسمي في الرابع من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، قبل أن يعتمده رئيسا المجلسَين، عقيلة صالح ومحمد تكالة، الخميس الماضي. ونص الاتفاق على تولي لجنة مشتركة من المجلسين فرز واختيار المرشحين لتولي المناصب السيادية، على أن يعتمد مجلس النواب الأسماء النهائية بقراره الرسمي.
ورغم أن الاتفاق جاء شاملاً لبدء تسمية شاغلي المناصب السيادية خلال أسبوعين، وهي محافظ مصرف ليبيا المركزي، ورئيس ديوان المحاسبة، ورئيس هيئة الرقابة الإدارية، ورئيس هيئة مكافحة الفساد، ورئيس وأعضاء المفوضية العليا للانتخابات، ورئيس المحكمة العليا، والنائب العام، إلّا أنه نص على أن تعطى الأولوية "لتشكيل مجلس إدارة المفوضية العليا للانتخابات، وذلك تماشياً مع متطلبات خريطة الطريق للحل السياسي المقترحة من بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا".
غير أن هذا التفاهم، الذي بدا في ظاهره استكمالاً لمتطلبات المسار الأممي، يطرح تساؤلات عميقة حول دوافعه وتوقيته، خصوصاً أنه جاء بعد مدّة طويلة من جمود ملف المناصب السيادية الذي واجه خلافات عميقة بين المجلسَين لسنوات عدّة، إذ نص اتفاق الصخيرات عام 2015 على أن يتولى المجلسان بالتشاور تسمية شاغلي المناصب السيادية خلال ثلاثين يوماً من توقيعه، فيما لم يحرز اتفاق فعلي بين المجلسين إلّا بعد مشاورات عامَي 2020 و2021، وحتى هذه المشاورات توقفت أيضاً بسبب الخلاف حول المحاصصة بين المجلسين في تقاسم المناصب.
وعلاوةً على توقيت الاتفاق الأخير بين المجلسين قبيل انتهاء مهلة الشهرين الأممية، فإنه جاء مخالفاً لتأكيد البعثة الأممية الواضح على أن تنفيذ خريطة الطريق لا يحتمل "التجزئة"، إذ تشمل المرحلة الأولى منها تشمل بالتوازي، إعادة تشكيل المفوضية وكذلك إجراء تعديل شامل على القوانين الانتخابية، وهو ما لم يجر حتّى الآن، ما يطرح أسئلة حول إمكانية أن يمثل الاتفاق بين المجلسين خطوة في طريق تنفيذ الخطة الأممية، أم أنه بداية لتفكيكها من الداخل؟.
وكانت المبعوثة الأممية هانا تيتيه قد شدّدت، خلال إعلانها عن خريطة الطريق أمام مجلس الأمن في 21 أغسطس/ آب الماضي، على أن الخريطة هي "حزمة واحدة غير قابلة للتجزئة"، يعاد في مرحلتها الأولى تشكيل المفوضية وتعدل القوانين الانتخابية بالتوازي في غضون شهرين، قبل الانتقال إلى المرحلة الثانية من توحيد الحكومة والإعداد للانتخابات العامة، فيما ستشمل المرحلة الثالثة "حواراً مهيكلاً" يضمّ فاعلين سياسيين واجتماعيين وممثلين عن المجتمع المدني لصياغة مسار ينتهي إلى إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية.
ووفقاً للبعثة، فإنّ تنفيذ الخريطة سيجري على نحو تدريجي خلال فترة تمتد من 12 إلى 18 شهراً، لكن المجلسَين انشغلا فقط بالشق الأول وهو إجراء تعديل على مجلس مفوضية الانتخابات وإدخاله ضمن ملف المناصب السيادية الواسع والجدلي بينهما.
ويرى الباحث وأستاذ العلوم السياسية بشير الكوت خلال حديث مع "العربي الجديد"، أن اعتماد المجلسين الاتفاق للبدء في تعيين شاغلي المناصب السيادية "يمثل فتح الملف الخلافي مجدّداً لإعادة هندسة دقيقة لآليات التحكم في المرحلة المقبلة، من خلال مناقشة المفوضية في سلة المناصب السيادية، ما يفرغ الخطة الأممية من معناها التنفيذي، لأن المفوضية هي المفتاح الفعلي للانتخابات، والبدء بها في ملف المناصب يعني تحويلها إلى أداة لمساومات النفوذ، وهنا سيفقد المسار الأممي حياده وتصير إدارة الانتخابات امتداداً لتوازن القوى بين شرق البلاد وغربها".
ويضيف الكوت أنّ "هذا التوجه يعكس مهارة الطبقة السياسية الليبية في الالتفاف لا بالمواجهة، إذ لم تعد الأطراف تعارض البعثة أو تعلن الرفض، بل تمسك بخيوط تنفيذ خطتها فتنفذ الشكل وتفرغها من جوهرها، ولا تدرك البعثة حتى الآن وصف الانسداد السياسي وشكله، فهو لم يعد نتاج الصراعات المسلحة، بل تحول إلى توافق مشترك على إدارة الجمود عبر أدوات مؤسسية تبدو قانونية ومنظمة"، ووصف الوضع الحالي الذي انتهت إليه النخب السياسي بـ"مرحلة التجميد الشرعي التي تجعل من كل اتفاق خطوة إلى الوراء مغلفة بورق قانوني".
ويؤكد الكوت أن هذا التعاطي يشمل كل الأطراف الليبية، لافتاً إلى أن "البعض قد يتساءل: أين حكومة الوحدة الوطنية؟، أين المجلس الرئاسي؟، فهما طرفان أساسيان"، مضيفاً "الحقيقة أن الحكومة تستخدم مجلس الدولة الموالي لها واجهةً للتحرك ضد الخطة الأممية، والمجلس الرئاسي يسير قريباً منها بسياسة الحياد المعلن، لكنه عملياً يتحرك بوصفه ذراعاً ناعمة للحكومة، تستخدمه عند الحاجة لتجميل مواقفها أمام المجتمع الدولي".
وفي موازاة هذا المشهد، جاءت تصريحات اللواء المتقاعد خليفة حفتر الرافضة لما وصفه بـ"الخريطة التي نسجت خيوطها وراء الحدود"، ودعا الليبيين إلى "صياغة خريطة طريق ليبية خالصة ترتكز على الشرعية المحلية"، لتصب في ذات السياق. ووفقاً لقراءة الكوت فإنّ حفتر ينخرط أيضاً في نفس الاتجاه من زاوية عدم الرفض المعلن لخريطة الطريق "بل يتموضع في خريطة توزيع الأدوار الذي لم تتفق عليه القوى المحلية، لكنها باتت تعرف أنه يجب أن يدفع كل طرف باتجاهه، فبينما المجلسان الخصمان على طول الخط يسيران الآن في اتجاه تعطيل المسار من داخل مؤسساتهما، يصدر حفتر تأمين الغطاء الخطابي الوطني لذلك بواسطة شعارات الاستقلال والرفض، مظلةً سياسية وأسلوباً آخرَ لإبطاء تنفيذ الخريطة".
وأكثر من ذلك، يلفت الكوت إلى خطوة أخرى جاءت بالتوازي، وهي إعلان المحكمة الدستورية في بنغازي عن شرعية تعيين حفتر لنجلَيه، صدام وخالد، في مناصب عسكرية عليا، وهو ما يمثّل بحسبه "تثبيتاً لشرعية مؤسّسته العسكرية وتحصيناً لها ضدّ أي تحول سياسي في أي عملية انتخابية مقبلة، وبمعنى آخر فالخريطة الليبية التي دعا لها حفتر صار حكم المحكمة ترجمة قانونية لها، وبمعنى أعمق فمساعي حفتر تتخذ طابع المعارضة الناعمة لاحتواء الخطة الأممية لا لمواجهتها".
وفي ظل هذا التشابك الذي تبدو فيه البعثة الأممية أمام اختبار قدرتها على تنفيذ شرط أن تنفذ خريطتها حزمةً واحدة، كما أنها تبدو في مواجهة عملية تفكيك متدرجة تتولاها المؤسسات التي يفترض أنها شريكة في التنفيذ، يلفت الكوت إلى أنها "تواجه تحدياً آخر في مراحلها التي تراها أساسية، وتحديداً مرحلة "الحوار المهيكل" الذي ستعول فيه على النخب المجتمعية والمدنية، ولأجل ذلك ذهبت إلى دعم عملية الانتخابات البلدية التي أنجزت منها مرحلتان، ويجري الاستعداد للثالثة والأخيرة"، مشيراً إلى أن البعثة لم تخفِ أنها تدعم هذه الانتخابات لإحياء روح العملية الانتخابية من القاعدة إلى القمة.
لكن الكوت يرى أيضاً أن رهان البعثة على الانتخابات البلدية لدعم مرحلة "الحوار المهيكل" محفوف بالمخاطر، لأن العملية الانتخابية البلدية هي الأخرى تدخلت فيها القوى السياسية وفقاً لصلاحياتها وآلياتها القانونية، كما حدث بقرارات أصدرتها الحكومة في طرابلس من خلال وزارة الحكم المحلي بإنشاء بلديات جديدة في الزاوية أو بجدل مصراتة وتاورغاء، وفي المقابل جمدت الحكومة في بنغازي عملية الانتخابات في البلديات الواقعة في مناطق سيطرة حفتر.
ويخلص الكوت إلى أن ليبيا "لا تعيش انسداداً سياسياً بقدر ما تعيش تدويراً ممنهجاً، فالقوى الفاعلة لم تعد بحاجة إلى تعطيل صريح للخطة الأممية؛ لأن أدواتها القانونية تكفي لذلك، فالمجلسان يستمدان شرعيتهما من اتفاق الصخيرات نفسه الذي تحاول البعثة استكماله، وحفتر يستمد شرعيته من قرارات حصنها القضاء نفسه الذي يفترض أن يراقب الشرعية، والحكومة في طرابلس تستند إلى شرعيتها الدولية وصلاحياتها من الاتفاقات السياسية، وما تفقده البعثة اليوم هو أدوات ضغط جديدة، وليس محاولة امتصاص مساعي اختراقها وعرقلتها".