إيران تدخل عهد رئيسي: أزمات داخلية وخارجية تحاصره

إيران تدخل عهد رئيسي: أزمات داخلية وخارجية تحاصره

05 اغسطس 2021
حدد رئيسي أولوياته بتحسين الوضع المعيشي ومكافحة الفساد (Getty)
+ الخط -

تبدأ إيران عهداً جديداً، اليوم الخميس، مع تنصيب المحافظ إبراهيم رئيسي رسمياً رئيساً ثامناً للبلاد، إثر أدائه اليمين الدستورية في البرلمان الإيراني، بمشاركة وفود أجنبية وكبار المسؤولين الإيرانيين. رئاسة رئيسي لا تبدأ في ظروف عادية، بل في وضع استثنائي داخلياً وخارجياً، إذ يدخل رئيسي قصر الرئاسة (باستور) اليوم، وهو يرث كمّاً هائلاً من التحديات والأزمات المتراكمة، لكن في الوقت نفسه، ثمة عوامل تمنحه ميزات لمواجهة هذه الأزمات لم يملكها معظم أسلافه. فلأول مرة تقريباً في تاريخ إيران، باتت جميع مفاصل الدولة وسلطاتها الثلاث (الرئاسة والبرلمان والسلطة القضائية) في قبضة المحافظين، الذين ينتمي إليهم رئيسي، فضلاً عن أنه شخصية مقربة ومدعومة من مؤسستي القيادة والحرس الثوري، لذلك لن يواجه عقبات داخلية ناتجة عن الخلاف في الفكر والرؤية والانتماء بين الرئاسة وبقية أركان الحكم، كما حصل في العقود الماضية، وهذا ما يسهّل له المهمة. لكن ذلك لا يكفي وحده لتحقيق النجاح في مواجهة تلك التحديات الصعبة للغاية، ويرى مراقبون أنها لن تحتمل التأخير في معالجتها، وبالتالي ليس أمامه متسع من الوقت لإخراج البلاد منها.

أولويات الداخل

تنتظر رئيسي على الصعيد الداخلي ملفات ثقيلة، ينبغي حلها سريعاً، في مقدمتها الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، التي تفرض نفسها كأولوية قصوى، نظراً إلى تداعياتها الكبيرة، أمنياً وسياسياً، فلم يعد المواطن الإيراني قادراً على تحمّلها، وهو ما تُرجم بالتظاهرات التي شهدتها السنوات الأخيرة، لتسجيل موقف احتجاجي على الواقع المعيشي المتردي جراء الغلاء والتضخم غير المسبوق. هذه الأزمة التي أنتجتها العقوبات الأميركية التي استهدفت مفاصل اقتصاد الدولة وعصبه (النفط) مع سوء الإدارة والسياسات الاقتصادية الخاطئة، وفق مراقبين، فاقمها الانتشار الحاد لجائحة كورونا خلال العام والنصف الأخير، والذي عرّض المواطنين الإيرانيين إلى مزيد من الضغوط النفسية والاقتصادية، وزاد حدة مفاعيل العقوبات الأميركية، لتشكل مواجهة الجائحة التحدي العاجل الثاني أمام رئيسي المطالب بالبحث عن حلول سريعة. فإيران تُعدّ البلد الأكثر تعرضاً للجائحة الوبائية في المنطقة، ويواجه الإيرانيون موجات متلاحقة وقاسية من الفيروس منذ بداية تفشيه خلال فبراير/شباط 2020، واحدة تلو أخرى، قبل أن تبدأ الموجة الخامسة أخيراً.

تفرض الأزمة الاقتصادية نفسها كأولوية نظراً إلى تداعياتها

تراجع الثقة الشعبية

التحدي الداخلي الآخر نتيجة تراكم الأزمات الداخلية، هو تراجع ثقة الشارع الإيراني في الحكومة، وهو ما كان عاملاً أساسياً في تسجيل مشاركة متدنية في الانتخابات التشريعية في فبراير/شباط 2020 بنسبة 42.57 في المائة، والرئاسية في يونيو/حزيران بنسبة 48.8 في المائة. لعب تراجع الثقة الشعبية في السلطة، دوراً مهماً في إشعال الاحتجاجات في إيران خلال السنوات الثلاث الأخيرة، بعد أن فَقَد المواطن أمله في الحكومة لإصلاح الوضع، ونزل إلى الشارع في احتجاجات كبيرة، منتصف نوفمبر/تشرين الثاني 2019، اعتراضاً على رفع أسعار البنزين، وصولاً إلى الاحتجاجات الأخيرة على أزمتي المياه في محافظة خوزستان والكهرباء.

هذا التحدي بلغ مرحلة تستدعي التعاطي معه سريعاً ولا يحتمل أي تأخير، وذلك لا يتم إلا من خلال إزالة الأسباب التي أدت إليه، وفي مقدمتها راهناً إنهاء الأزمة الاقتصادية كعنوان عام لأزمات أخرى، الغلاء والبطالة والكهرباء والمياه وكورونا. لكن لا اتفاق اليوم بين القوى الفاعلة في إيران على حلول لمعالجة الأزمة الاقتصادية، فبينما كانت حكومة حسن روحاني والمدرسة الإصلاحية وأنصارها ومراقبون آخرون يرون أنه لا يمكن حل الأزمة من دون تحقيق انفراج في العلاقات المتأزمة مع الغرب ورفع العقوبات التي تخنق الاقتصاد الإيراني، يرى المحافظون وأنصارهم والمؤسسات التي يهيمنون عليها أنه يمكن حل الأزمة الاقتصادية بالاعتماد على القدرات الذاتية وتعزيزها، وتوطيد العلاقات مع الشرق (خصوصاً روسيا والصين)، بما يؤدي إلى إحباط مفاعيل العقوبات الأميركية في حال عدم رفعها.

وفي السياق، حدد رئيسي بعد فوزه بالرئاسة أولوياته الداخلية المتمثلة في تحسين الوضع المعيشي وإصلاح النظام الإداري ومكافحة الفساد، موضحاً أنه يحمل "رسالة التغيير ومكافحة الفساد والفقر والتمييز وتطبيق العدالة". وفي كلمة له أمس الأول الثلاثاء، خلال مراسم مصادقة المرشد الأعلى علي خامنئي على فوزه، أكد رئيسي أن القضايا الاقتصادية تشكّل "الأولوية العاجلة" للحكومة، مشيراً إلى "قضية عجز الموازنة واستقرار سوق البورصة وكبح الغلاء والتضخم وكورونا وقضايا أخرى"، مع حديثه عن "إعداد حلول" لهذه القضايا. وأكد رئيسي أنه سيعمل على رفع العقوبات، لكن مع عدم ربط تحسين الوضع الاقتصادي بـ"إرادة الأجانب". وقال "نحن نسعى بالطبع إلى رفع الحظر الجائر، لكننا لن نربط ظروف حياة الأمة بإرادة الأجانب"، مضيفاً "لا نرى أن الوضع الاقتصادي للشعب ملائم، بسبب عدائية الأعداء، وأيضاً بسبب المشاكل والثغرات في داخل البلاد".

رئيسي: لن نربط ظروف حياة الأمة بإرادة الأجانب

أزمة النووي

أما رفع العقوبات الذي يشكّل تحدياً كبيراً، فمرتبط بتحدٍ آخر أكثر أهمية، وهو إحياء الاتفاق النووي المترنح من خلال مفاوضات فيينا غير المباشرة بين طهران وواشنطن، والتي نُظّمت ست جولات منها منذ إبريل/نيسان الماضي، وهي متوقفة اليوم، ويُتوقع استئنافها بعد تشكيل الحكومة الإيرانية الجديدة. لكن رئيسي سيتعامل مع هذه المفاوضات بواقعية سياسية، إذ صرّح عند الكشف عن الخطوط العريضة لسياسته الخارجية، في مؤتمره الصحافي الأول في 24 يونيو/حزيران الماضي، أنه سيواصل مفاوضات إحياء الاتفاق النووي، غير أنه سينطلق تجاهها من مقاربة مختلفة عن سلفه روحاني، وهي مقاربة محافظة تتحفظ بالأساس على التفاوض مع الغرب، خصوصاً مع الولايات المتحدة، وتنظر إليها بريبة كبيرة.

لاءات ثلاث أطلقها رئيسي في ذلك المؤتمر الصحافي، اختصرت خطوط سياسته الخارجية: لا تفاوض حول صواريخ إيران وسياساتها الإقليمية، لا لقاء مع الرئيس الأميركي جو بايدن، ولا تعويل استثنائياً على الاتفاق النووي. وأكد أن "سياستنا الخارجية لن تبدأ بالاتفاق النووي ولن تُختزل في ذلك ولن نربط معيشة المواطنين بالاتفاق والمفاوضات". هذه التصريحات تؤكد أن رئيسي لن يولي الاهتمام الذي أبداه سلفه روحاني للمفاوضات، وأنه على الأغلب سيتّبع منهجاً آخر، انطلاقاً من قناعة المحافظين بضرورة إبداء تشدد في المفاوضات، وإسناد الفريق المفاوض بخطوات نووية على الأرض. وعليه، جاء إقرار قانون "الإجراء الاستراتيجي لرفع العقوبات" البرلماني في ديسمبر/كانون الأول الماضي في هذا الإطار، إذ ألزم القانون الحكومة باتخاذ خطوات نووية تصعيدية لإجبار الأطراف الأخرى على إلغاء العقوبات. ونفذت حكومة روحاني بنوداً مهمة منها، وسط انتقادات محافظة بأن القانون لم يُنفذ بحذافيره، لذلك يتوقع مراقبون أن يفعل رئيسي ذلك وينفذ بنوداً مضى موعدها، ولم تطبّقها إيران لمنح الفرصة لمفاوضات فيينا، مثل إنشاء مصنع اليورانيوم المعدني في أصفهان.

السلوك الجديد الذي سيتخذه رئيسي في المفاوضات، يأتي تماشياً مع قناعاته السياسية المحافظة، وتوجيهات خامنئي الرافضة للثقة في الغرب والاعتماد على التفاوض معه، وإدراكاً من الرئيس الجديد أن هذا السلوك في ظل توحيد مفاصل الحكم في إيران بقبضة المحافظين، سيعزز من فرص تحقيق اتفاق مجدٍ مع واشنطن، ولو طال أمد التفاوض. كما أن ذلك سيؤدي إلى توحيد مواقف إيران والخروج من ازدواجية السياسة والميدان.

لكن على الضفة الأخرى، فإن الجانبين الأميركي والأوروبي، اللذين بدآ بالتعاطي مع رئيسي بالتركيز على سجله القضائي واتهامه بالضلوع في ملف إعدامات السجناء المعارضين في ثمانينيات القرن الماضي، وسط دعوات جمهورية أميركية إلى حظر زياراته إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الأمم المتحدة، فإنهما عبّرا عن مخاوف من احتمال أن تسلك إيران في عهد رئيسي مساراً آخر في المفاوضات. وحذر المبعوث الأميركي الخاص بإيران، روبرت مالي، السبت الماضي، من عودة إيران إلى التفاوض من خلال طرح مطالب "غير واقعية"، فضلاً عن تلميحات من الإدارة الأميركية، بتشديد الضغوط الاقتصادية في حال غيّرت طهران سلوكها في المفاوضات أو لم تعد لها.

كان واضحاً منذ أشهر أن رئيسي يتجه للفوز بالرئاسة الإيرانية، وأن ذلك سيعقبه على الأغلب تغيير في السلوك الإيراني التفاوضي، لكن الطرفين الأميركي والأوروبي لم يتعاملا في المفاوضات بمقتضى التطور التفاوضي المحتمل بعد استبدال المعتدل روحاني برئيسي المحافظ، فلم يُبد الطرفان رغبة كافية في التوصل إلى اتفاق مع حكومة روحاني لسحب مسوغات ستستخدمها الحكومة الإيرانية المقبلة لتصعيد الضغوط النووية بهدف رفع العقوبات. لكن على العكس من ذلك، صعّد الأميركيون والأوروبيون من مواقفهم وأصروا، خلال الجولة السادسة من المفاوضات، على إدراج بند في الاتفاق المحتمل ينص على موافقة طهران على مواصلة المفاوضات حول سياساتها الإقليمية وبرنامجها الصاروخي، حسب مندوب إيران الدائم لدى المنظمات الدولية في فيينا، كاظم غريب أبادي.

نحو الإقليم

أزمة العلاقات مع دول المنطقة، خصوصاً مع السعودية، تشكّل تحدياً آخر أمام الحكومة الإيرانية المقبلة، وظفتها الولايات المتحدة خلال السنوات الماضية وقوداً لاستراتيجية الضغوط القصوى على إيران، فضلاً عن أن الاحتلال الإسرائيلي استغل هذه الأزمة لإيجاد موطئ قدم له على الحدود الإيرانية الجنوبية على الخليج، بتطبيع العلاقات مع بعض دول المنطقة، ما زاد التحديات الإقليمية لإيران تعقيداً. وبات صنّاع القرار في إيران يدركون خطورة استمرار الأزمة مع دول المنطقة، ليحتل التركيز على تحسين العلاقات مع الجيران، حيزاً كبيراً من تصريحات رئيسي خلال حملته الانتخابية، مؤكداً أن ذلك يشكّل أولويته الخارجية.

نجاح رئيسي مرتبط ببناء الثقة مع الجيران الذين تربطهم علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة

تنطلق هذه التصريحات من مقاربة تؤمن بالبدء في حل أزمات البلاد الخارجية من مستواها الإقليمي، عكس رؤية روحاني، الذي يؤمن بحل هذه الأزمات انطلاقاً من مستواها الدولي، عبر الحوار مع القوى العظمى في مقدمتها الولايات المتحدة. لكن المعضلة التي تواجهها إيران أن تشابكاً عميقاً بات يربط بين أزمة علاقاتها الإقليمية وأزماتها الدولية مع الغرب، بالذات الولايات المتحدة، لدرجة بات من الصعب حل واحدة منهما بمعزل عن الأخرى، وهذا يصعّب مهمة رئيسي في إنهاء التوترات التي تخيّم على علاقات بلاده في المنطقة.

لذلك، فنجاح رئيسي مرتبط بقدرته على فصل هذه الأزمات عن بعضها البعض، وبناء الثقة مع الجيران الذين تربطهم علاقات استراتيجية مع الولايات المتحدة. غير أن الترابط الوثيق بين تلك الأزمات وبسبب اعتبارات أخرى، تجعل من الصعب تحقيق انفراجة في علاقات إيران مع الأطراف الإقليمية، فضلاً عن أن الحكومة الإيرانية المقبلة الرافضة لأي تفاوض حول سياسات طهران الإقليمية ستبدي المزيد من التمسك بالسياسات الإقليمية وتعزيز النفوذ، أولاً لعلاقتها القوية الوثيقة مع "الميدان"، وثانياً لوجود قناعة لدى صنّاع القرار الإيراني، يكشف عنها مقربون منهم، بأن التطورات الدولية والإقليمية تميل لصالح طهران، فيرون أن إدارة بايدن تفتقر إلى استراتيجية ثابتة ومستقرة للتعامل مع دور إيران في الشرق الأوسط. فهي تنسحب من أفغانستان، وتسحب بطاريات "باتريوت" من بعض الدول العربية، وتواجه هجمات من فصائل محسوبة على إيران في العراق. لذلك، هذا التذبذب سيمنح الحكومة المحافظة المقبلة في إيران إمكانية أكبر للتغلغل أكثر في كل من سورية والعراق ولبنان. كما يرون أن إسرائيل بعد غياب بنيامين نتنياهو عن الحكم، فقدت نقطة ارتكاز مهمة ضدها، وأن انقسامها الداخلي غير المسبوق في ظل حكومة ائتلافية "هشة"، يفقدها القدرة على التحرك في المنطقة ضدها كالسابق.

المساهمون