استمع إلى الملخص
- لم تلقَ الاعترافات الفرنسية بجرائم الاستعمار ترحيبًا من الجزائر، التي تراها محاولات لامتصاص الغضب في ظل الأزمات الدبلوماسية، خاصة بعد موقف فرنسا من قضية الصحراء.
- تصاعدت التوترات بين الجزائر والبرلمان الأوروبي بعد اعتقال بوعلام صنصال، حيث انتقد البرلمان الجزائري التدخلات الأوروبية، بينما دعت فرنسا لحمايته بعد منحه جنسيتها.
تتوالى الاعترافات في باريس بجرائم ارتكبها الجيش الفرنسي خلال فترة استعمار الجزائر، لكن هذه الإقرارات لا يبدو أنها تدفع باتجاه انفراج سياسي للأزمة الدبلوماسية المتفاقمة بين البلدين منذ نهاية يوليو/ تموز الماضي، على خلفية تحول في الموقف الفرنسي بشأن النزاع في الصحراء.
وفي خطوة جديدة، وضعت سلطات العاصمة الفرنسية، مساء الأربعاء، لوحة تعريفية ونصبا تذكاريا لمحرقة الأغواط (مدينة في وسط الجزائر)، حيث أباد المستعمر الفرنسي ثلثي سكان المدينة عند احتلالها عام 1852، ما يُعتبر إقرارا رسميا من قبل باريس بارتكاب إبادة بحق الجزائريين، خاصة في الفترة الأولى لتوسع الاحتلال الفرنسي. وحضر تدشين اللوحة التعريفية والنصب التذكاري رئيسة بلدية باريس آن هيدالغو، وعدد من المسؤولين الفرنسيين، وأعضاء في لجنة الحريات في البرلمان، ومثقفون ونشطاء جزائريون وفرنسيون يعملون في مجال الذاكرة والتاريخ.
وقالت هيدالغو خلال التدشين إن هذا الاعتراف الرمزي جاء نتيجة عمل المؤرخين، وضمن سياق عمل يتم على مستوى الذاكرة لبناء المستقبل، مضيفة أن جهود ائتلاف مدني (لجنة الأغواط في فرنسا) يقوده الكاتب الجزائري لزهاري لبتر، والناشط الفرنسي بيار مونسى، أثمرت عن تحقيق هذه الخطوة.
وقال رئيس "لجنة الأغواط فرنسا" بيار مونسى إن الخطوة تأتي بعد 172 سنة من تلك الجريمة المروعة، وتدخل في سياق كشف جرائم الاستعمار الفرنسي وجرائم الإبادة والمجازر المروعة التي شهدتها تلك الحقبة، مشيرا إلى أن "الخطوة جاءت بفعل جهود النخب الجزائرية والفرنسية المقتنعة بضرورة اعتراف فرنسا بجرائمها". وأضاف أن اللجنة ستستمر في الدفع نحو الاعتراف بكل الجرائم التي حدثت في الجزائر.
وفي الرابع من ديسمبر/ كانون الأول 1852، اقترفت قوات الجيش الفرنسي محرقة الأغواط، التي باتت توصف في الذاكرة الشعبية في تلك المنطقة بـ"عام الخلية (الإبادة)". وتعد من أفظع الجرائم التي ارتكبها الجيش الفرنسي بحق السكان والمقاومين.
وقال وزير المجاهدين (قدماء المحاربين) العيد ربيقة، في مؤتمر عقد بالمناسبة، إن ''محرقة عام الخلية من الجرائم التي يندى لها جبين الإنسانية، وبقيت جرحا غائرا في ذاكرة الجزائريين وجريمة من الجرائم الاستعمارية التي لا تسقط بالتقادم، فقد تفنن المستعمر في البطش بأبناء المدينة وإبادة ثلثهم في همجية بلغت مداها آنذاك''.
وقبل هذه الخطوة السياسية والتاريخية، كانت باريس قد أعلنت سلسلة خطوات أخرى في ذات السياق، كان آخرها إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في بيان رسمي، في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم، الاعتراف بمسؤولية الدولة الفرنسية عن اغتيال وإخفاء جثة الشهيد العربي بن مهيدي، أبرز قادة الثورة الجزائرية. واعترف بيان للرئاسة الفرنسية بأن "العربي بن مهيدي، البطل الوطني للجزائر وأحد قادة جبهة التحرير الوطني الستة الذين أطلقوا ثورة الأول من نوفمبر 1954، قتله عسكريون فرنسيون كانوا تحت قيادة الجنرال بول أوساريس". وعقب ذلك طلب الرئيس الفرنسي من سفير بلاده في الجزائر ستيفان روماتيه وضع إكيل من الورود على قبر الشهيد بن مهيدي في مقبرة العالية في الضاحية الشرقية للعاصمة الجزائرية.
وسبق ذلك اعتراف ماكرون بمسؤولية الدولة الفرنسية عن جرائم اغتيال سياسي في الجزائر. ففي مارس/آذار 2021، أقر رسميا بتعرض المناضل الجزائري علي بومنجل "للتعذيب والقتل" على يد الجيش الفرنسي خلال الثورة التحريرية الجزائرية عام 1957، وباغتيال عالم الرياضيات موريس أدوان في الجزائر في يونيو/حزيران عام 1957.
وكان لافتا عدم تفاعل الجزائر مع سلسلة الإقرارات الأخيرة لباريس، واعتبار أنها ليست ذات قيمة تاريخية وسياسية و"تدخل في إطار اعتراف بالتقطير" ترفضه الجزائر. كما اعتبرت الجزائر الاعترافات جزءاً من مناورة سياسية تستهدف امتصاص الغضب الجزائري، في خضم سلسلة أزمات دبلوماسية بين البلدين بدأت منذ نهاية عام 2019، وتفاقمت الصيف الماضي، بعد إعلان باريس عن خطوة الاعتراف بالطرح المغربي في قضية الصحراء، ما دفع الجزائر إلى سحب سفيرها من باريس وخفض التمثيل الدبلوماسي. كما توترت العلاقات بين البلدين على خلفية قضية اعتقال السلطات الجزائرية للكاتب الفرانكوجزائري بوعلام صنصال، وملاحقته قضائيا بشأن تصريحات أدلى بها تخص وحدة التراب الجزائري.
انتقادات للبرلمان الأوروبي على خلفية قضية صنصال
هاجم البرلمان الجزائري بشدة البرلمان الأوروبي، على خلفية مداخلات وتصريحات لنواب فرنسيين وغير فرنسيين في البرلمان الأوروبي ضد الجزائر، في أعقاب اعتقال السلطات الجزائرية صنصال، وإحالته إلى القضاء على خلفية تصريحات أدلى بها في فرنسا، اعتبرتها الحكومة الجزائرية مساسا بالوحدة الوطنية للبلاد.
وأكد بيان لمجلس الأمة صدر الخميس، أنه "يدين بشدة، ويعبر عن استهجانه ورفضه المطلق لكلّ تدخل سافر في الشؤون الداخلية للجزائر"، مشيرا إلى أنه "يحثّ أعضاء البرلمان الأوروبي المدعومين بلوبيات النيوكولونيالية الفرنسية، والذين سمحوا لأنفسهم بكلّ دناءة بأن يتناولوا ويتداولوا بشأن الحريات وحرية التعبير في الجزائر، وبشأن قضية داخلية لدولة ذات سيادة، على إجبار عواصمهم وسلطات بلدانهم الرسمية على تطبيق القانون، وعدم التراجع خطوات إلى الوراء، والامتثال دون شروط إلى قرارات الجنائية الدولية بالقبض على مجرمي الحرب الصهاينة الذين يمارسون حرب إبادة وتطهير على غزة منذ أربعة عشر شهراً".
وانتقد البرلمان الجزائري ازدواجية المعايير التي يتعامل بها هؤلاء النواب، ففيما يمنحون ضوءاً أخضر لمدلّلهم الكيان الصهيوني ويوفّرون الغطاء لمسؤوليه القتلة المجرمين، ويتهمون مستندين في ذلك إلى أسطوانتهم المشروخة، بحجة معاداة السامية، كلّ جهة تنتقد حفيدهم الكيان المارق النازي الاستيطاني الذي أهان المنظومة الدولية".
وكان عدد من نواب اليمين الفرنسي في البرلمان الأوروبي، طالب الحكومة الفرنسية ومؤسسات الاتحاد الأوروبي باتخاذ موقف ضد الجزائر، بشأن ملف الحريات واعتقال الكاتب بوعلام صنصال، وطالبوا الحكومات الأوروبية بإظهار قدر من الحزم ضد الجزائر، ووصفوا النظام الجزائري بأنه نظام تسلطي يقمع الآراء المختلفة والمتعارضة مع مواقف وخيارات السلطة.
وأعلن مجلس الأمة الجزائري دعمه للقضاء الجزائري بشأن لملاحقة "كل من يتعدّى حدوده ويتمطّط على وحدة الجزائر التي توافر لها من عوامل الدفع باتجاه استقلالية قراريها السياسي والاقتصادي ما يمكّنها من دفع أيّ سعي يائس لاستفزازها أو تطويعها ومحاولة التأثير عليها".
وكانت السلطات الجزائرية قد اعتقلت الكاتب بوعلام صنصال عند عودته من باريس، على خلفية تصريحات مثيرة للجدل، كان أدلى بها لمنصة فرنسية، قال فيها إن أجزاء من الجزائر كانت تتبع المغرب، وأن الجزائر لم يكن لها أي كيان قبل الاستعمار الفرنسي. ولاحقا، أعلن وزير الداخلية الفرنسي برونو روتايو الثلاثاء ما قبل الماضي أن "الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مهتم بقضية الكاتب، وأنه منحه الجنسية الفرنسية، ومن واجب فرنسا حمايته بالطبع"، فيما قال وزير الخارجية الفرنسي، جان نويل بارو، في تصريح صحافي، إن "اعتقال بوعلام صنصال غير مبرر، وغير مقبول".