أكدت ناتاليا بوكلونسكايا، نائبة رئيس هيئة "روسترودنيتشيستفو" الفيدرالية الروسية، إقالتها من منصبها من الهيئة المعنية بدعم المواطنين الروس في الخارج والدفاع عن الثقافة الروسية والترويج لـ"القوة الناعمة" للكرملين.
وتكشف الإقالة، وفق مرسوم وقع عليه الرئيس فلاديمير بوتين اليوم الإثنين، عن حجم الضغوط الهائلة التي يتعرض لها الموظفون الروس المعارضون للحرب على أوكرانيا، وفي الوقت ذاته عن "ازدواجية إجبارية" في التعامل مع منتقدي العملية العسكرية تجلت في الحكم على عدد من المنتقدين بأحكام قاسية، مقابل الاضطرار إلى توجيه انتقادات أو فصل آخرين من العمل من دون توجيه اتهامات لهم بإهانة الجيش الروسي.
وأوضحت بوكلونسكايا أنها أقيلت من منصبها بسبب الانتقال إلى وظيفة جديدة لكنها لم تكشف عن طبيعة العمل الجديد، وشكرت عبر قناتها على "تيليغرام" الرئيس بوتين على "الدعم والثقة". وذكرت هيئة "روسترودنيتشيستفو"، في بيان، أن بوكلونسكايا "أظهرت نفسها كمناضلة شجاعة وفعالة من أجل حقوق مواطنيها". وعينت بوكلونسكايا في منصب نائب رئيس الهيئة، في 2 فبراير/ شباط من العام الحالي، وكانت مسؤولة حماية حقوق المواطنين الروس في الخارج والإدارة في مجال الثقافة والفن.
ورغم استمرارها في العمل بنشاط واضح في الشهرين الأخيرين، بدا واضحا أن مسيرة بوكلونسكايا في وظيفتها الجديدة لن تطول، وربما تكون مغايرة لسيرتها السياسية والمهنية التي اتسمت بتصريحات ومواقف مثيرة للجدل.
ففي 19 إبريل/ نيسان الماضي، انتقدت بوكلونسكايا العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وقالت في مقابلة مع قناة "لايف نايل" المحلية في شبه جزيرة القرم على "يوتيوب" إن "الحرف Z يرمز إلى المأساة والحزن لكل من روسيا وأوكرانيا لأن الجنود الروس والروس يموتون، والآباء يتلقون أخبارًا مختلفة... بعد كل شيء، تقول وزارة الدفاع: لقد مات الكثيرون، وجُرح كثيرون. هل هذا فرح؟ بالطبع لا".
ولم يتأخر ردّ رئيس هيئة "روسترودنيتشيستفو" يفغيني بريمكاكوف، وتعهد في 20 إبريل/ نيسان باستخلاص النتائج المناسبة، وشدد حينها على أن تصريحات نائبته لا تعبر عن رأي الهيئة، وكشف عن التوجه لإجراء مراجعة شاملة للإطار التنظيمي في المؤسسة الحكومية. وأكد بريماكوف أن "رمزي Z وV أصبحا الأكثر شعبية لدعم جيشنا، وشعارين لتحرير أوكرانيا من شرّ الإرهابيين وعصابات النظام".
ودخلت بوكلونسكايا في سجال مع رئيسها، وكتبت على "تيليغرام" أن "أي شكل من أشكال العنف يجلب الحزن والموت والدمار... أنا أتحدث عن خطر العبادة العمياء لأي رمز والتاريخ لا يحب ذلك"، وزادت "في عيد الفصح الاحتفالي، تُصوَّر الصلبان وليس الرموز العسكرية. في رياض الأطفال، يمارسون التمارين ويتعلمون القصائد عن الأم والسلام واللطف، ولا يصطف الأطفال في محاكاة للرموز العسكرية". وخلصت مستهجنة تصريحات رئيسها إلى أن "الجنود والناس العاديين يفقدون حياتهم، والكثير منهم معطوبون... كم عدد أسرى الحرب، وكم مقدار الحزن ... كل هذا يسمى محنة، ومأساة، وكارثة".
وفي 15 إبريل/ نيسان الماضي رفضت بوكلونسكايا اقتراح رئيس مجلس الدولة لشبه جزيرة القرم فلاديمير كونستانتينوف بضرب كييف بصواريخ إسكندر أو صواريخ أقوى لردع أوكرانيا، وأشارت في صفحتها على "تلغرام" إلى أنه "رغم أني لا أمثل جميع سكان القرم لكنني كمواطنة أرى أن من واجبي أن أعبر عن رأيي وأنا لا أريد استهداف كييف بصواريخ إسكندر أو أخرى أقوى وأنتظر إنهاء الصراع الرهيب، وإحلال السلام، وعودة الجنود الروس إلى أرضهم، وإعادة إعمار البنية التحتية والعلاقات المدمرة (مع أوكرانيا)".
قمة الصعود
مثلت الفترة بين 2016 و2021 قمة صعود بوكلونسكايا بعدما تم انتخابها في مجلس الدوما (البرلمان) الروسي عن حزب روسيا الموحدة. وولدت في مقاطعة لوهانسك في جمهورية أوكرانيا السوفييتية في عام 1980، وبعد إنهاء دراستها في مدينة يفباتوريا في شبه جزيرة القرم في فرع القانون، تدرجت في عدة مناصب في الادعاء العام، وفي عام 2014، أيدت علانية انفصال شبه الجزيرة عن أوكرانيا، وبعد ذلك حصلت على منصب المدعي العام للقرم، وفي أكتوبر/ تشرين الأول تم تعيينها سفيرة في الرأس الأخضر، لكنها استقالت لاحقًا من هذا المنصب لأسباب شخصية.
وبدأ صعود بوكلونسكايا السريع في فبراير/ شباط 2014، بعدما استقالت من تلقاء نفسها من منصب المدعي العام الأول لإدارة الإشراف على تنفيذ القوانين في القرم التي كانت تابعة لأوكرانيا. وبررت قرارها بأنها "تخجل من العيش في بلد يتجول فيه الفاشيون الجدد بحرية ويفرضون شروطهم على ما يسمى بالحكومة الجديدة". وبعدما ضمت روسيا شبه الجزيرة في مارس/ آذار من العام ذاته، عينت مدعية عامة في القرم. وبعد إدانتها في محكمة أوكرانية بالمساعدة في الإطاحة بالنظام الدستوري أو الاستيلاء على سلطة الدولة، وأيضاً التآمر لتنفيذ مثل هذه الإجراءات، تم إدراج بوكلونسكايا في قوائم العقوبات التي فرضها الاتحاد الأوروبي وكندا واليابان وسويسرا وأستراليا والولايات المتحدة.
أثارت مواقف بوكلونسكايا المتقلبة بين القومية والدينية المتشددة تارة، والداعية إلى منح مزيد من الحريات تارة أخرى جدلا واسعا. وفي 2019 تقدمت بدعوى لمنع عرض فيلم "ماتيلدا"، الذي يعرض قصة علاقة غرامية بين القيصر نيكولاي الصاني عندما كان وليا للعهد مع راقصة بالية بولندية، وتنطلق من أنه لا يجوز المساس بقدسية القيصر نيكولاي الثاني وعائلة رومانوف.
وفي 2018 أثارت غضب حزب "روسيا الموحدة"، حين صوتت ضد قانون رفع السن التقاعدي، وقالت حينها إنها تعمل بضميرها في ردّ على انتقادات زملائها البرلمانيين. ورفضت في عام 2021 الترشح مرة أخرى للبرلمان.
وفي مطلع 2021، أكدت في تصريحات أن من حق المواطنين التساؤل حول قانونية اعتقال المعارض أليكسي نافالني، خاصة أنه كان يخضع لفترة علاج ونقاهة، رغم أنها ترأست لجنة للتحقيق في نشاطات وتمويل "صندوق مكافحة الفساد" الذي أسسه نافالني.
ورداً على قرار هيئة الرقابة على الإنترنت والمطبوعات إبطاء سرعة الوصول إلى "يوتيوب" و"تويتر" في مارس/آذار 2021، أكدت النائبة أنها ترفض فرض قيود على عمل جميع وسائل التواصل الاجتماعي، وقالت إنها ترغب بالعيش في "مجتمع ديمقراطي يحصل فيه الروس على جميع المعلومات من مصادر مختلفة"، وشددت على حق الروس في إبداء آرائهم والتظاهر السلمي، وأنها تفضل أن تكون "روسيا منفتحة".
ورغم الثمن الكبير الذي يدفعه معارضو سياسات الكرملين، فإن سيرة بوكلونسكايا بتصريحاتها ومواقفها المثيرة للجدل تكشف عن مأزق الكرملين في التعامل مع شخصيات لا يمكن التشكيك بوطنيتها، وتسعى لأن يكون لها رأيها الخاص في كل القضايا المطروحة، وخاصة في حالة بوكلونسكايا التي قدمها كأيقونة من أيقونات المعركة لضم القرم.