Skip to main content
إضراب دبلوماسيي فرنسا: حرب صامتة بين الإليزيه والكيه دورسيه
رأى متابعون أن توزير كولونا كان لتهدئة الغضب (Getty)

هبّت رياح الاعتراض باكراً في فرنسا، مع انطلاق الولاية الثانية للرئيس إيمانويل ماكرون. وبينما كان الترقب يتجه لانتظار الخريف المقبل، حين تنشط الحركات النقابية والاحتجاجية الشعبية عادة في البلاد، ومع توقعات بإمكانية عودة حراك "السترات الصفراء" إذا ما ازداد الضغط المعيشي مع تطور الحرب الأوكرانية، جاء الاعتراض من مكان غير متوقع، أو ربما تنبأت به حلقة ضيّقة فقط تضمّ النخب الإدارية العريقة في فرنسا. إذ نفّذ الجسم الدبلوماسي الفرنسي، أمس الخميس، إضراباً نادراً، اعتراضاً على خطة إصلاح حكومية من شأنها القضاء على امتيازاتهم والنهج المتعارف عليه في فرنسا لاختيار الدبلوماسيين. ويرى متابعون أن اختيار ماكرون للدبلوماسية كاثرين كولونا، سفيرة فرنسا السابقة في لندن، لخلافة جان إيف لودريان كوزيرة للخارجية في حكومة إليزابيث بورن الجديدة، كان محاولة استباقية، لإخماد الحراك الدبلوماسي وتجنب الإضراب، وهو ما لم ينجح.

مرسوم إصلاح الوظائف: طعنة لموظفي الخارجية الفرنسية

وكان مرسوم قد نشر في الصحيفة الرسمية للجمهورية الفرنسية، بين دورتي الانتخابات الرئاسية التي أجريت في 10 و25 إبريل/نيسان الماضي، حمل الرقم 561/2022، ويتعلق بإصلاح الوظائف الحكومية العليا، وعكس رغبة الرئاسة الفرنسية في تعديل النهج المتبع لاختيار الدبلوماسيين.

ينقل "إصلاح" ماكرون الدبلوماسيين الفرنسيين إلى سلك واسع يضم كل أطياف الإدارة العامة

يتحدث الفريق الحكومي المدافع عن المرسوم، عن ضمانات للإبقاء على الوظائف مع المرسوم، ولكن عمّا من الممكن أن يكون معناه سأم الإليزيه من النخبوية الطاغية على هذا السلك، ورغبة الرئاسة في تنويع وتحديث الجسم الدبلوماسي الفرنسي. فيما يرى المعترضون أن المرسوم يقضي على التخصصية الدبلوماسية، ولكن خصوصاً على سلكين تاريخيين في الخارجية الفرنسية، هما السفراء (أو المفوضون) فوق العادة، ومستشارو الشؤون الخارجية.

ومن شأن المرسوم أن يطاول حوالي 800 دبلوماسي فرنسي، وأكد سفراء ودبلوماسيون فرنسيون عديدون، بحسب ما نقلت عنهم وكالات الأنباء ووسائل الإعلام الفرنسية، انضمامهم إلى الإضراب، الذي دعمته حوالي سبع نقابات منضوية في "بيت" الخارجية الفرنسية. وشمل الإضراب وقفة احتجاجية أمام مقر وزارة الخارجية الفرنسية، المعروفة بالـ"كيه دورسيه"، في الدائرة السابعة في باريس على الضفة الغربية من نهر السين.

وكان حوالي 500 دبلوماسي فرنسي قد وثّقوا اعتراضهم قبل الإضراب، في مقال موقع بأسمائهم نشر في صحيفة "لوموند" الفرنسية الأسبوع الماضي. واعتبر هؤلاء أن الدبلوماسية المهنية في فرنسا مهددة بالزوال، وقالوا إن "العملاء (الموظفين) الدبلوماسيين أصبحوا مقتنعين بأن وجود الوزارة نفسه أصبح موضع تساؤل".

وينقل "إصلاح" ماكرون الدبلوماسيين الفرنسيين إلى سلك واسع يضم كل أطياف الإدارة العامة، ويشجع انتقالهم بين الوزرات، كما يفرض عليهم التنافس مع مرشحين من خارج السلك للفوز بالمناصب الرفيعة. ويرى الدبلوماسيون المعترضون من جهتهم، أن التغيير، والمرتقب أن يدخل حيّز التنفيذ في الأول من يناير/كانون الثاني 2023، يهدّد عراقة وظائفهم التي تتطلب التخصص وخبرةً مكتسبةً تحتاج إلى سنوات طويلة من العمل في مناصب حول العالم، وأنه ليس لديهم وقت أو مكان لـ"الهواة".

وليس امتعاض الدبلوماسيين الفرنسيين وليد اللحظة، بل يعود إلى سنوات، سبقت حتى وصول ماكرون إلى السلطة، وتفاقمت خلال وجوده في الإليزيه. إذ شهدت الخارجية الفرنسية تقليصاً في النفقات والطاقم الوظيفي منذ عام 2007.

وفي مقالهم في "لوموند"، تحدث الدبلوماسيون المعترضون عن "عقود من التهميش لدور وزارة الخارجية داخل الدولة الفرنسية"، مدينين "التقليص الهائل" للموظفين، بانخفاض بلغ 30 في المائة خلال السنوات العشر الماضية. وندّدوا بضعف التمويل، الذي يبلغ 0.7 في المائة فقط من ميزانية الدولة. وتضم فرنسا ثالث أكبر شبكة دبلوماسية في العالم، مع حوالي 1800 دبلوماسي، و13 ألف موظف يعملون في وزارة الخارجية.

خسارة الذاكرة أم تنويع صحي؟

لكن "طفحان كيل" الدبلوماسيين الفرنسيين، بحسب تعبير صحيفة "لا كروا"، أمس الخميس، وهو الثاني الكبير والمنظم منذ 20 عاماً، يفضح أيضاً الخلافات الراكدة في مياه السياسة الفرنسية منذ وصول ماكرون إلى السلطة.

وكان لافتاً تنديد رئيس الوزراء الفرنسي ووزير الخارجية الأسبق، دومينيك دو فيلبان، بعد صدور المرسوم في إبريل، وذلك في تغريدة على "تويتر"، بإصلاح ماكرون الذي وصفه دو فيلبان بـ"الخطأ التاريخي". ورأى أن خسارة الوضع الخاص للدبلوماسيين الفرنسيين في نظام الخدمة المدنية، يعني "خسارة الاستقلالية، والكفاءة، وخسارة الذاكرة، والتي ستكون لها تداعياتها الثقيلة خلال السنوات المقبلة". وقال إنه "لو لم يكن هذا الجسم الدبلوماسي، لما حصل الاعتراض الفرنسي على التدخل الأميركي في العراق في عام 2003، ولا اتفاق باريس للمناخ في 2015". 

ويأتي المرسوم، ثم الإضراب، على مقربة من الانتخابات التشريعية في فرنسا التي تجري بدورتين في 12 و19 يونيو/حزيران الحالي، والتي يسعى فيها ماكرون إلى الاحتفاظ بالغالبية في البرلمان. كما تأتي في ظرف أوروبي حسّاس مع ترؤس فرنسا للاتحاد الأوروبي حتى نهاية يونيو/حزيران الحالي، ويتفاقم خطورة مع تطور الحرب الروسية على أوكرانيا، ولكن أيضاً فيما كانت الدبلوماسية الفرنسية قد واجهت تحديات فيروس كورونا، ثم الوضع الفرنسي المتراجع في منطقة الساحل الأفريقي، وبين ذلك انسحاب حلف شمال الأطلسي من أفغانستان وغيرها من المسائل الخارجية التي وضعت الجسم الدبلوماسي الفرنسي تحت الضغط.

السفير السابق جيرار آرو،  يعبّر عن  خشيته من "أمركة" للدبلوماسية الفرنسية

وكتب دو فيلبان أن الخطأ التاريخي ستكون له تداعياته الجسيمة خلال السنوات المقبلة، في الوقت "الذي تجري فيه إعادة تشكيل العالم، حيث الموعد مع الأزمات الكبرى، في أوكرانيا وبحر الصين الجنوبي ومنطقة الساحل، وحيث ترسم موازين قوى جديدة، بين الولايات المتحدة والصين، بين الدول الأوتوقراطية والديمقراطيات الليبرالية".

ويعتبر الدبلوماسيون الفرنسيون أن مهنتهم "رسالة"، وأن انتقالهم أو مداورتهم في زواريب جسم "إداريي الدولة" الجديد، سيفقدهم سنوات من اكتساب الخبرة المطلوبة لمهنتهم، والتي تعرفها فرنسا منذ القرن السادس عشر. لكن الخشية من الأبعاد السياسية للقرار، لا تغيب عن بال الدبلوماسيين الفرنسيين المحنكين.

ويعبّر السفير الفرنسي السابق في الولايات المتحدة، جيرار آرو، لصحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، عن خشيته الرئيسية، من "أمركة" للدبلوماسية الفرنسية، بحيث يُمنح الرئيس ماكرون هامشاً أوسع وأكثر سرّية لاختيار السفراء بحسب رغبته الشخصية، ومن جميع أطياف الإدارة العامة الفرنسية.

وتعيد صحيفة "لومانيتيه" الناطقة باسم الحزب الشيوعي، في عددها الصادر أمس، أسباب المرسوم، إلى انقلاب مجلس الدولة في 2018 على مرسوم صدر حول تعيينات دبلوماسية قنصلية، رأت الصحيفة أن ماكرون أراد من خلاله مكافأة صديقه الكاتب والصحافي باتريك بوسون، وتعيينه قنصلاً في لوس أنجليس. لكن "نيويورك تايمز" تتحدث عن غضب أوسع نطاقاً للرئيس، وذلك مع تعارض سياسته الخارجية مع الطبيعة الصارمة للدبلوماسية الفرنسية، لا سيما خلال محاولته الانفتاح على الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ويقول آرو في ذلك: "ماكرون لا يحب أن يكون ضمن قيود. هو لا يحب بشكل خاص أن يخضع للقواعد".
(العربي الجديد، أسوشييتد برس، رويترز)