- يوفال نواح هراري يحذر من استمرار السياسات الحالية ويدعو إسرائيل لتعزيز التحالفات مع الديمقراطيات الغربية والتعاون مع العناصر المعتدلة في العالم العربي لمواجهة التهديدات.
- تواجه إسرائيل مقاطعة دولية متزايدة تؤثر على المؤسسات الأكاديمية والثقافية والفنية، مما يهدد بتحولها إلى دولة منبوذة ويضعف قدرتها على استخدام الدبلوماسية الثقافية كأداة لتحسين صورتها الدولية.
بعد مرور أكثر من 200 يوم على بدء حرب الإبادة في غزة، بدأ عددٌ من المحلّلين الإسرائيليين، التحذير من خطورة الحالة الاستراتيجية الحالية لإسرائيل، ومن احتمال حصول فشل خطير في وضع الأمن القومي الإسرائيلي. أجواء الإحباط تتزايد يومياً في الإعلام الإسرائيلي، وتكثر التقارير عن إسقاطات الحرب على تراجع مكانة إسرائيل الدولية وعن حجم آثار المقاطعة غير الرسمية لإسرائيل، التي بدأت تؤرق، على سبيل المثال لا الحصر، المؤسسات الأكاديمية والثقافية والفنية. وهناك مطالبة باتخاذ خطوات حاسمة لتفادي المأزق الاستراتيجي والخسارة، على الرغم من تدمير شبه كامل لقطاع غزة وقتل قرابة 35 ألف فلسطيني في غزة.
في مقال موسع للمؤرخ الإسرائيلي يوفال نواح هراري، ذي السمعة العالمية والمتخصص بالتاريخ العسكري، نشر في صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية بتاريخ 18 إبريل/نيسان الحالي، تحت عنوان "هل ستموت نفسي مع فلسطينيي غزة؟ إذا لم نقم بتغيير جذري، فإننا نتجه نحو هزيمة تاريخية"، عرض الرجل صورة سوداوية لواقع ومستقبل إسرائيل نتيجة لسوء قياداتها الحالية والقرارات الكارثية التي تتخذها الحكومة.
المقاطعة تشمل جوانب مهمة كانت تستعملها إسرائيل لترويج وتسويق مشروعها وتعزيز مكانتها في العالم
كتب هراري أنه "في الأيام المقبلة، سيكون على إسرائيل اتخاذ قرارات سياسية تاريخية، يمكن أن تحدد مصيرها ومصير المنطقة برمتها لأجيال مقبلة. وللأسف، أثبت (رئيس الحكومة الإسرائيلية) بنيامين نتنياهو وشركاؤه مراراً وتكراراً أنهم غير مؤهلين لاتخاذ مثل هذه القرارات. السياسة التي اتبعوها لسنوات عديدة هي التي قادت إسرائيل إلى الهاوية. وحتى الآن لم يظهروا أي ندم على أخطاء الماضي، أو أي استعداد لتغيير الاتجاه. إذا استمروا في اتخاذ القرارات هنا، فسوف يقودوننا نحن والمنطقة بأكملها إلى الدمار. فبدلاً من الاندفاع إلى حرب جديدة مع إيران، من الضروري أولاً أن نتعلم الدروس من فشل حرب الأشهر الستة".
صحيح أن أهداف إسرائيل كانت، بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، إطلاق سراح المختطفين ونزع سلاح حركة "حماس"، لكنها لم تكن الأهداف الوحيدة وفقاً لهراري. ففي "ضوء التهديد الوجودي الذي تشكله إيران وعملاء الفوضى التابعون لها، كان على إسرائيل أيضاً أن تعزز التحالف مع الديمقراطيات الغربية، والتعاون مع العناصر المعتدلة في العالم العربي وتؤسس نظاماً إقليمياً مستقراً. لكن حكومة نتنياهو تجاهلت كل هذه الأهداف، وبدلاً من ذلك سعت إلى الانتقام. غير أنه لغاية الآن، لم تنجح إسرائيل في إطلاق سراح جميع المختطفين ولم تقض على حماس. بل تسببت، عن قصد، في وقوع كارثة إنسانية هائلة على 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة، ما أدى إلى تقويض الأساس الأخلاقي والسياسي لوجود دولة إسرائيل". وتابع: "إذا لم نقم بتغيير جذري في تعاملنا مع الفلسطينيين، فإن غطرستنا ورغبتنا في الانتقام ستقوداننا إلى هزيمة تاريخية". وتساءل: "إلى متى تستطيع إسرائيل البقاء كدولة منبوذة؟ في أفضل السيناريوهات يمكن أن تتحول إسرائيل إلى كوريا الشمالية في الشرق الأوسط".
طبعاً يكتفي هراري بتحميل نتنياهو وحكومته مسؤولية الكارثة التي ستحل بإسرائيل، وبأخطاء الحرب وتعامل إسرائيل مع المدنيين، ويرى أن الحل يقتصر على تغيير نتنياهو وأداء إسرائيل، من دون أن يربط ذلك بأصول الصراع والاحتلال، ورفض غالبية المجتمع الإسرائيلي الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بالحرية والحياة الكريمة والاستقلال.
الأكاديمية الإسرائيلية غير مرحب بها دولياً
أحد أبرز الجوانب التي توضح تراجع مكانة إسرائيل الدولية، وتحولها إلى دولة منبوذة، هي بداية حملات مقاطعة، ولو غير رسمية، في جوانب مهمة جداً كانت تستعملها إسرائيل لترويج وتسويق مشروعها وتعزيز مكانتها في العالم، منها العلاقات الأكاديمية الدولية، والفعاليات الثقافية والفنية الإسرائيلية في العالم. في كلا المحورين، هناك تراجع كبير لإمكانيات التعاون بين فعاليات إسرائيلية ودولية، ومقاطعة غير رسمية للعديد من الفعاليات وإلغاء مشاريع تعاون قائمة.
بتاريخ 11 إبريل الحالي، نشر الصحافي أور كشتي تقريراً موسعاً في "هآرتس"، حول مقاطعة الأكاديمية الإسرائيلية عالمياً، قال فيه "إن هناك حالات طرد للعلماء من المجموعات البحثية الدولية، وإلغاء دعوات لمؤتمرات، وتجميد تعيينات، وإنهاء التعاون الأكاديمي، ورفض المقالات العلمية لأسباب سياسية، وتخريب محاضرات، ورفض المشاركة في إجراءات ترقية أعضاء هيئة التدريس الإسرائيليين، وكذلك مقاطعة جماعية للأكاديميين وللمؤسسات وإنهاء للتعاون". كشتي الذي حاور 60 باحثاً من الجامعات الإسرائيلية، قال: "لا مجال للشك: إسرائيل تواجه مقاطعة أكاديمية غير مسبوقة، والتي تزداد صرامة".
المقاطعة تأتي من أفراد ومؤسسات في الأكاديمية العالمية الذين يرفضون علناً التعاون مع أكاديميين إسرائيليين، ويرسلون رسائل توضح أن أسباب الرفض نابعة من تصرفات إسرائيل والحرب على غزة. وقد أجمع الأكاديميون الإسرائيليون على أن الوضع الراهن لا سابق له، وأن ما يحدث يشكل تهديداً جدياً على القدرات البحثية والأكاديمية للباحثين الإسرائيليين، وإلى تجفيف موارد وأدوات العمل الأكاديمي الإسرائيلي.
يرسل أفراد ومؤسسات أكاديمية رسائل توضح أن أسباب الرفض نابعة من تصرفات إسرائيل والحرب على غزة
البروفيسورة ملئات شامير، نائبة رئيس جامعة تل أبيب والمسؤولة عن التعاون الأكاديمي الدولي، قالت إن "السيناريو الإيجابي هو أن نعود في وقت قصير إلى الوضع السابق والى حالة الاستقرار، ونستعيد مكانتنا في العالم. بالرغم من أن ذلك مستبعد حالياً. والسيناريو الأسوأ هو أن نسير في اتجاه حالة جنوب أفريقيا أيام نظام الفصل العنصري".
الفن والثقافة جزء من الاحتلال والإبادة
في 18 إبريل الحالي، نشرت صحيفة "هآرتس" تقريراً موسعاً لعدد من الصحافيين يتناول المقاطعة الدولية للثقافة والفنون الإسرائيلية في العالم، جاء فيه أن مقاطعة الإنتاج الفني والثقافي الإسرائيلي بدأت منذ نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، في مهرجان للسينما في العاصمة الهولندية أمستردام، بحيث احتج عدد من الداعمين للقضية الفلسطينية على مشاركة فيلم إسرائيلي في المهرجان. في الأشهر التالية، ازداد الوضع سوءاً. واليوم، يتعيّن على كل مهرجان سينمائي مهم تقريباً التعامل مع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، وكل مشاركة لفيلم إسرائيلي أو لمبدعين إسرائيليين، يتم تصنيفها مسبقاً على أنها فضيحة محتملة.
وليس مستغرباً، وفقاً للتقرير، أن يفضّل مديرو المهرجانات اليوم الابتعاد عن الأفلام الإسرائيلية. المنتجون والموزعون الدوليون لا يريدون أي علاقة بالمشاريع الإسرائيلية، ويجد صنّاع الأفلام من إسرائيل أنفسهم منبوذين ومرفوضين. وتم إلغاء العديد من مهرجانات الأفلام الإسرائيلية في الأشهر الأخيرة، منها في لوس أنجليس، وكندا وإسبانيا ولندن. إسرائيل الآن هي النجم الجديد لثقافة الإلغاء العالمية. كل خبير في المهرجانات الدولية يعرف أن احتمال قبول المهرجانات الكبيرة لأفلام إسرائيلية هو صفر.
هذه الحالة قائمة أيضاً في مجال عرض المسلسلات الإسرائيلية في قنوات المسلسلات العالمية، وفي معارض الكتب، وفي دور النشر العالمية، وكافة الفعاليات الثقافية. كما أن هناك دعوات لمقاطعة الأغنية الإسرائيلية المشاركة هذا الشهر في مسابقة الأغنية الأوروبية السنوية المنعقد هذا العام في السويد، والتي فازت فيها إسرائيل في السابق مرات عدة، وكانت منصة للترويج الإعلامي الإسرائيلي. الفن والثقافة الإسرائيليتان باتتا مادة منبوذة دولياً وتُعتبر جزءاً من أدوات الاحتلال والإبادة. في تقرير صحافي سابق في 29 نوفمبر الماضي، نشر أيضاً في "هآرتس" للصحافيين إيتمار كتسير وأوفير حوفيف، استنتجا أنه منذ السابع من أكتوبر، تغير شيء جوهري: "فجأة بات يبدو أن الخيار الطبيعي هو مقاطعة إسرائيل وشعبها، أو على الأقل عدم لمس هذه الجمرة الحارقة".
خسارة إسرائيل التضامن الدولي... خسارة استراتيجية
إلى جانب المأزق العسكري والسياسي الاستراتيجي، يُلاحَظ أن إسقاطات الحرب أصبحت أوسع، وقد تخسر إسرائيل التضامن والدعم العالمي، خصوصاً الشعبي. وباتت إسرائيل دولة منبوذة في الجوانب الأكاديمية والفنية والثقافية والسينمائية، وإلى حد ما الاقتصادية. وتبرز في الأيام الأخيرة الاحتجاجات الكبيرة في الجامعات الأميركية ضد حرب الإبادة على غزة والمطالبة بمقاطعة إسرائيل، وهي ليست مواضيع هامشية بتاتاً. فإلى جانب أهمية التعاون الأكاديمي الدولي لتطور الأكاديمية الإسرائيلية، وأهمية مصادر التمويل والنشر، وتجنيد الموارد المالية لكافة مجالات الثقافة والفنون، إسرائيل استعملت كافة هذه الأدوات للترويج وتسويق دولة إسرائيل وتحسين صورتها دولياً، ولكسب تعاطف وتضامن المجتمعات الغربية. بل إنها كانت تعد مورداً من موارد القوة الإسرائيلية، وأداة من أدوات الدبلوماسية الإسرائيلية غير الرسمية. فقدان أو تراجع هذه الموارد يضرّ في صورة إسرائيل وفي إمكانيات التسويق والترويج، وتعتبر خسارة إسرائيلية للمدى البعيد.
خطورة إسقاطات المقاطعة الدولية باتت محل إجماع لدى قسم كبير من المحللين والسياسيين. والتحذير من الضرر الاستراتيجي يكاد أن يكون حالة إجماع. استمرار هذه الحالة وتعزيزها، يمكن أن يتحول إلى تأثير فعلي وجدّي على الحكومة الإسرائيلية وصناع القرار. إسرائيل لا تستطيع أن تتحمل مقاطعة أكاديمية وثقافية وفنية وربما رياضية واقتصادية لفترة طويلة.