استمع إلى الملخص
- التدخلات العسكرية الأجنبية: رغم حظر السلاح منذ 2011، استمرت التدخلات الأجنبية، حيث عززت روسيا وتركيا وجودهما العسكري، مما يعكس تعقيدات الوضع الأمني والسياسي ويثير مخاوف من تصاعد الصراعات.
- التحركات الغربية والنفوذ الروسي: تحركات دبلوماسية وعسكرية غربية في ليبيا لمواجهة النفوذ الروسي، وسط تساؤلات حول قدرة الغرب على التأثير في التحالفات العسكرية، مع مخاطر زيادة التشظي الداخلي.
لا يزال قرار مجلس الأمن بشأن رفع جزئي لحظر توريد السلاح المفروض على ليبيا يثير تساؤلات حول حقيقة أهدافه وتوقيته، وتداعياته على ليبيا الغارقة في مستنقع السلاح، وسط غموض مستقبلها السياسي في ظل استمرار حالة الانقسام الحاد بين أطرافها، في الوقت الذي برز فيه حراك بريطاني تجاه القادة في طرابلس وبنغازي. ومنتصف يناير/كانون الثاني الماضي، قرّر مجلس الأمن السماح بدخول السفن والطائرات العسكرية إلى ليبيا لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وكذلك السماح لأعضاء مجلس الأمن بتقديم مساعدات في التدريب والدعم التقني لقوات الأمن الليبية للمساعدة في توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية. وفيما لم يحدد القرار الجهة الليبية المخوّلة بتنفيذه، إلا أن القرار جاء استجابة لطلب قدّمه المجلس الرئاسي الليبي، تبنّته بريطانيا، لتخفيف العقوبات المفروضة على ليبيا في حظر توريد السلاح، بهدف المساعدة على بناء القدرات الأمنية التي تمكّن البلاد من مكافحة الإرهاب وحماية حدودها والتعاون مع الدول المجاورة في ذلك.
وصدر القرار بموافقة 14 عضواً بمجلس الأمن وامتناع روسيا عن التصويت، وسط ترحيب أميركي وبريطاني لافت به، إذ اعتبر المندوب الأميركي في المجلس روبرت وود أنه قرار سيدعم التكامل بين شرق وغرب ليبيا وسيساعد على استقرار البلاد. كما رأت المندوبة البريطانية باربرا ودوورد أنه سيمنح الحق للدول الأعضاء في المجلس بتقديم الدعم لبناء مؤسسات أمنية وعسكرية قوية. في المقابل، أبدى المندوب الروسي فاسيلي نيبينزيا اعتراضه على شكل تحذير من إمكانية أن تغذي هذه الخطوة الصراعات المسلحة، في ظل انقسام البلاد بين قطبين عسكريَين في شرقها وغربها.
خروقات لحظر توريد السلاح إلى ليبيا
وكان مجلس الأمن قرر منذ عام 2011 حظر توريد السلاح إلى ليبيا، وخوّل الاتحاد الأوروبي بمراقبة تنفيذ القرار، وأنشأ الأخير عمليتين، الأولى عملية يوبام لمساعدة ليبيا على مراقبة حدودها، والثانية عملية إيريني لمراقبة الشواطئ الليبية وتفتيش السفن المتجهة إليها، إلا أن العمليتَين لم تحدا من تدفق السلاح إلى ليبيا، إذ اشتكى قادة العمليتَين، خصوصاً "إيريني"، في تقاريرهم المرفوعة إلى مجلس الأمن من كثرة الخروقات.
وعلى الأرض تمكنت روسيا وتركيا من بناء وجود عسكري لهما، إذ عززت موسكو وجودها العسكري، ونقلته من مستوى مجموعات مرتزقة فاغنر إلى مستوى أكثر تقدماً في أربع قواعد عسكرية ليبية، وأضافت لها قبل أيام القاعدة الخامسة في السارة جنوب شرق البلاد، وسط حديث عن عزمها بناء فيلق أفريقي. بينما حضرت تركيا، بموجب اتفاق مع الحكومة، في طرابلس منذ عام 2019، في عدة قواعد عسكرية في العاصمة الليبية ومحيطها.
تمكنت روسيا وتركيا من بناء وجود عسكري واسع لهما في ليبيا
وعلى الرغم من أن مسؤولين في السفارة الأميركية لدى ليبيا كثفوا منذ أشهر لقاءاتهم مع القادة العسكريين في غرب وشرق البلاد، تحت عنوان أساسي هو توحيد المؤسسة العسكرية والأمنية، وجرى في بعضها الحديث عن إمكانية تقديم دعم على شكل تدريبات لرفع الكفاءة في القطاع الأمني، إلا أن الزيارة التي أجراها نائب رئيس هيئة أركان الدفاع البريطانية هارفي سميث، إلى طرابلس وبنغازي، تعد الأولى من نوعها في الجانب العسكري والأمني.
والتقى سميث رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، الأحد الماضي في طرابلس، وناقش معه "أوجه التعاون الأمني والعسكري المشترك بين ليبيا وبريطانيا، والعمل على دعم المؤسسة العسكرية، وتوحيد الجهود لمكافحة الإرهاب والجريمة المنظمة"، وفقاً بيان المكتب الإعلامي للمجلس الرئاسي. كما التقى سميث في بنغازي اللواء المتقاعد خليفة حفتر، يوم الاثنين الماضي، وبحث معه "سبل تعزيز التعاون والتنسيق بين القيادة العامة للقوات المسلحة (قيادة حفتر) ورئاسة الأركان العامة البريطانية، بما يخدم المصالح المشتركة بين البلدين"، وفق بيان المكتب الإعلامي لقيادة حفتر، الذي أشار إلى أن اللقاء بحث سبل دعم بريطانيا جهود ترسيخ الأمن والاستقرار في ليبيا.
مواجهة التوسع الروسي
على مدار السنوات الماضية ركزت بريطانيا جهودها في الشأن الليبي في دعم جهود الحل السياسي، ولهذا يؤكد أستاذ الدراسات الإقليمية والدولية، أبو بكر الوادي، أن زيارة سميث "مهمة" بالنظر إلى سياقاتها وخلفياتها، خصوصاً أنها تأتي في خضمّ تغيرات كبيرة يشهدها الفضاء الإقليمي لليبيا. ويقول الوادي في حديث لـ"العربي الجديد" إن لندن لم يسبق لها أن تبنّت موقفاً واضحاً لدعم أي من أطراف الصراع أثناء حروب البلاد السابقة، رابطاً بين توقيت الزيارة وبين تبنّي لندن طلب المنفي ودفعِها بمذكرة الطلب لمناقشتها في مجلس الأمن الذي أقر رفع الحظر الجزئي عن تسليح ليبيا.
أبو بكر الوادي: الزيارات الأميركية والبريطانية لليبيا ضمن خطوات غربية لتقويض المشروع الروسي في المنطقة
ويعتبر الوادي أن زيارة المسؤول العسكري البريطاني تؤشر إلى انخراط بلاده في رؤية مشتركة مع واشنطن، وربما تنضم إليها عواصم أوروبية أخرى، بهدف تعزيز الحضور إلى جانب الأطراف المسلحة الليبية. ويلفت إلى تشابه محطات الزيارات لمعسكري غرب وشرق البلاد عند المسؤولين العسكريين الأميركيين والبريطانيين، مضيفاً أنها تقع ضمن خطوات غربية لتقويض المشروع الروسي في المنطقة، والذي يتخذ من ليبيا منطلقاً له، خصوصاً أن مسؤولين في السفارة الأميركية أكدوا أهمية تشكيل قوة عسكرية ليبية مشتركة لتوحيد الجهود الأمنية.
ويرى أن هذه المساعي الغربية التي تهدف إلى بناء قوة ليبية مشتركة، تستهدف في الأساس "التشويش على مشروع موسكو، ومن الممكن الربط بين طبيعة الزيارات العسكرية الأميركية، والبريطانية حالياً، وبين ما يُشاع عن رغبة في بناء فيلق أوروبي بأذرع عسكرية ليبية يقابل مشروع الفيلق الأفريقي الروسي". ويستند في قراءته لوجود اتجاه غربي، تقوده واشنطن ولندن، ضد الوجود الروسي، إلى العديد من المعطيات، منها تزامن صدور قرار مجلس الأمن مع الأزمة التي تعانيها موسكو في سورية بشأن قواعدها العسكرية وخيار ليبيا بديلاً أمامها، معرباً عن قناعته بأن قرار مجلس الأمن، الذي عارضته روسيا، خطوة لشرعنة وجود عسكري غربي للتموضع في ليبيا ولملء الفراغات التي تتحرك فيها روسيا.
ويتساءل الوادي عن الدواعي الإنسانية التي استجدت في ليبيا واحتاجت لقرارٍ كهذا، وماذا ستقدّم السفن والطائرات العسكرية للحالة الإنسانية في ليبيا، معتبراً أن "القرار أعطى الصبغة الشرعية لتدفق السلاح تحت غطاء إنساني، أو لتقديم الدعم العسكري لأي طرف، كما أن التعامل في هذا القرار سيكون من خلال المجلس الرئاسي الذي تقدّم بالطلب، بمعنى التعامل مع السلطة المعترف بها دولياً في طرابلس". ووفقاً لرأي الوادي، فإن أهمية التحرك الغربي تحت مظلة الشرعية الدولية تأتي إثرَ تورط الجانب الروسي في التحالف مع معسكر حفتر، خصم السلطة المعترف بها دولياً في طرابلس، مضيفاً أن: "التغير السريع في سورية أربك حسابات روسيا وعقّدها، وخيارها الأقرب، وهو ليبيا، لا يحقق لها هدف إبقاء نفوذها في المنطقة، فالملاحظ أنها خلال المدة الماضية لم تعلن عن وجودها في ليبيا رسمياً بسبب الانقسام السياسي، على عكس ما حدث في سورية، كما أنّ خليفة حفتر لا يلبي لها طموح خططها الطويلة التي ربما تتجاوز عمر حفتر نفسه".
مخاطر تعزيز الصراع الليبي
من جهته، يتوقع أستاذ القانون الدستوري أحمد العاقل إمكانية أن تقع زيارة الوفد العسكري البريطاني لطرابلس وبنغازي ضمن رؤى وخطط غربية تهدف إلى تقويض المشروع الروسي، لكنه يتساءل عن أولوية الملف الليبي في سلم سياسات الأميركيين والبريطانيين، وحقيقة امتلاكهما موقفاً موحداً من الوضع الليبي.
كما يتساءل العاقل، في حديث لـ"العربي الجديد"، عن قدرة مسؤولي العواصم الغربية على إجبار الأطراف الليبية على فكّ تحالفاتها العسكرية مع الروس أو الأتراك، لافتاً إلى أن قرار الرفع الجزئي لتوريد السلاح جاء ضمن حزمة قرارات أخرى، هي قرار يسمح لليبيا بالاستثمار الجزئي للأموال المجمّدة في الخارج، وآخر يتحدث عن عقوبات وشيكة بحقّ المتورطين في تصدير النفط خارج المؤسسات الشرعية. ويضيف: "من الممكن أن تعكس تلك القرارات سعياً أميركياً أو بريطانياً لتحقيق خطة ما، أو خطوات للحفاظ على مصالحهما، فقرار الرفع الجزئي لتوريد السلاح قد يكون وسيلة للدولتين لإدخال تقنيات حديثة أكثر تطوراً من السلاح المنتشر في ليبيا، بهدف السيطرة على حركة السلاح وخروقات منعه السابقة، لكن كيف سيخدم هذا القرار أوجه الأزمة الأخرى السياسية والاقتصادية؟"، معتبراً أن القرار يحمل مخاطر كبيرة على الوضع في ليبيا "ويحمل بذور زيادة التشظي الداخلي وتغذية الصراع".
أحمد العاقل: القرار الأممي يحمل بذور زيادة التشظي الداخلي وتغذية الصراع في ليبيا
ويمضي العاقل في حديثه عما يعتبرها تداعيات خطرة لهذا القرار، قائلاً "أبسط الأمثلة لتأكيد خطره، أنه رسالة ضمنية بأن المجلس الرئاسي هو القائد الأعلى للجيش، فقد صدر القرار استجابة لطلبه أولاً، وثانياً طبيعة القرار لصلته بالسلاح وتوريده، فهل سيقبل مجلس النواب بذلك، وقبل أشهر نزع عنه هذه الصفة وتصاعد الموقف بين المجلسين؟" ويضيف: "القرار لا يعقّد الوضع السياسي فحسب، بل يصعّد الموقف العسكري، فالاستجابة للمجلس الرئاسي تعني أنه من سينفذ القرار، لكن بأي آلية سينفذه فيما صفته قائداً للجيش هي حبر على ورق، إذ إن جميع الجهات العسكرية لا تولي قراراته أهميةً، وإذا تحالف مع أي طرف عسكري لتنفيذ القرار سيغضب الطرف الآخر، لا سيّما إذا كان هذا الطرف هو حكومة الوحدة الوطنية".
ويرجح العاقل أن يكون القرار والنشاط الأميركي والبريطاني لهما "أهداف أبعد، فكما أنّ موسكو وقواعدها العسكرية في ليبيا مُقلقة، كذلك تركيا يبدو أنها مُقلقة أيضاً بعد انفتاحها على قيادة حفتر وسلطته". ويذكّر العاقل بتصريحات رئيس حكومة الوحدة عبد الحميد الدبيبة، خلال مشاركته في منتدى دافوس قبل أيام، التي أكد فيها رفض "المقاربة الأمنية التي تنتهجها واشنطن في ليبيا"، معتبراً أن هذا التصريح "يترجم انزعاجاً تركياً من السياسات الغربية في ليبيا، فالدبيبة الحليف الأساسي لتركيا بصرف النظر عن انفتاحها على معسكر بنغازي في الشرق". ويخلص إلى القول إن قرار مجلس الأمن "إما أنه تهديد للمتدخّلين في ليبيا بإغراق البلاد أكثر بالسلاح، وكما هو موجّه لروسيا فإنّه موجّه لتركيا أيضاً، لا سيّما أن أنقرة عززت وجودها العسكري وبدأت تتواصل علناً مع حفتر وتعقد معه محادثات عسكرية"، وإما "أنه قرار ضمن خطوات التمهيد لعملية تغيير شامل لإنتاج سلطة سياسية تتحكم في قرار السلاح والاقتصاد وغيرها، وهو أمل يحتاج عملاً طويل الأمد وجهوداً شاقة".