أوروبا في مرمى الحرب الهجينة: من المسيّرات إلى الهجمات السيبرانية

28 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 13:39 (توقيت القدس)
الشرطة الدنماركية في مطار كوبنهاغن بعد رصد مسيّرات فوقه، 3 سبتمبر 2025 (فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تتسع الحرب الهجينة الروسية باستخدام الطائرات المسيّرة والهجمات السيبرانية والتضليل الإعلامي لاستنزاف أوروبا، مع حوادث مثل تحليق طائرات مجهولة فوق مطارات الدنمارك والنرويج.

- تتزامن هذه الأحداث مع اختراقات في بولندا وإستونيا والنرويج، مما يبرز مواجهة روسيا متعددة الأبعاد لزعزعة الثقة بالبنية التحتية وتقويض الدعم لأوكرانيا.

- تمثل الحرب الهجينة مزيجاً من أدوات تقليدية وغير تقليدية، مع أمثلة على طرد دبلوماسيين روس وهجمات سيبرانية، مما يختبر صبر أوروبا وقدرتها على الردع.

في الوقت الذي ينشغل فيه العالم بمتابعة مسار الحرب المفتوحة في أوكرانيا، تتسع رقعة صراع من نوع آخر؛ غير مُعلن وبلا جيوش نظامية، لكنه لا يقل خطورة عن المواجهات التقليدية. إنها الحرب الهجينة، التي تتقن موسكو أدواتها، وتستخدمها بفعالية متزايدة لاستنزاف أوروبا، وإرباك مؤسساتها، وإضعاف إرادتها السياسية والعسكرية.

من الطائرات المسيّرة المجهولة التي تُحلّق فوق مطارات ومنشآت حيوية في الدنمارك والنرويج، إلى التشويش المتعمد على أنظمة الملاحة الجوية في فنلندا، وصولاً إلى الهجمات السيبرانية وحملات التضليل المنهجية، تتوالى المؤشرات على أن روسيا تخوض مواجهة متعددة الأبعاد ضد الغرب، بأسلحة غير تقليدية تخترق المجال السيادي دون أن تُطلق رصاصة واحدة.

الدنمارك على خط المواجهة: الطائرات المسيّرة تكشف ثغرات خطيرة

في 23 سبتمبر/أيلول 2025، أُغلق مطار كوبنهاغن، أحد أكثر المطارات ازدحاماً في شمال أوروبا، لعدة ساعات إثر تحليق طائرات مسيّرة مجهولة الهوية فوقه. لم تكن تلك الحادثة معزولة، إذ شهدت الدنمارك في الليلتين التاليتين عمليات تحليق مشابهة فوق مطارات ومنشآت عسكرية في آلبورغ، هولستيبرو، إسبيرغ، وسونداربورغ، شملت حتى قواعد عسكرية حساسة مثل "ييدسكي دراغون".

وصفت رئيسة الوزراء ميتا فريدريكسن ما حدث بأنه "هجوم خطير على البنية التحتية الحيوية في البلاد"، بينما أكد وزير الدفاع ترويلز لوند بولسن "نحن لا نتعامل مع هاوٍ يُحلّق بطائرة لعبة... بل أمام عملية ممنهجة يقف وراءها فاعل محترف". ورغم غياب الأدلة القاطعة على الجهة المسؤولة، تشير التقديرات السياسية والإعلامية في كوبنهاغن إلى موسكو، أو إلى فاعلين محليين مرتبطين بها، وهو ما تنفيه روسيا بشكل قطعي.

وقائع متزامنة: الحرب الهجينة تنتشر في شمال وشرق أوروبا

الحادث الدنماركي جاء ضمن سلسلة من الأحداث المتسارعة في أوروبا خلال سبتمبر/أيلول 2025:

  • بولندا: في 18 من الشهر الحالي، اخترقت 23 طائرة مسيّرة، يُرجّح أنها روسية، الأجواء البولندية، وأسقطت طائرات الناتو أربعاً منها، بينما تحطّمت أخرى داخل الأراضي البولندية. لم تسجَّل إصابات، لكن المشهد مثّل اختباراً مباشراً لجهوزية الدفاع الجوي لحلف شمال الأطلسي.
  • إستونيا: بعد يومين فقط، عبرت ثلاث مقاتلات روسية من طراز "ميغ-31" المجال الجوي الإستوني، وأطفأت أنظمة تحديد المواقع، وظلت في الأجواء 12 دقيقة. ورغم أنها لم تطلق صواريخ، إلا أن الواقعة أثارت استنفاراً واسعاً.
  • النرويج: في توقيت متزامن، أُغلق مطار أوسلو نتيجة رصد طائرات مسيّرة، بينما سبق للاستخبارات النرويجية أن حذرت من هجمات محتملة على بنيتها التحتية مصدرها موسكو.
  • فنلندا: تعرّضت طائرات مدنية لتشويش متعمد على أنظمة "جي بي أس" فوق بحر البلطيق، مما أربك الملاحة الجوية، فيما وصف الخبراء الحادثة بأنها "اختبار جوي إلكتروني" يستهدف ثقة المدنيين بالبنية التحتية.

ما الحرب الهجينة؟ وكيف تنفذها موسكو؟

الحرب الهجينة هي مزيج من أدوات الحرب التقليدية وغير التقليدية. تتنوع بين: هجمات إلكترونية واختراقات سيبرانية، واستخدام طائرات مسيّرة لأغراض تجسسية أو استعراضية، وتضليل إعلامي واسع النطاق عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ودعم احتجاجات داخلية وتمويل مجموعات متطرفة، وتخريب فعلي عبر "وكلاء" مجهولي الهوية.

وتكمن خطورة هذا النوع من الحروب في غموض الفاعل؛ فالمسؤولية غالباً ما تُنكر أو تُحمّل لجهات وهمية أو مرتزقة، مما يُعقّد المحاسبة الدولية.

حرب نفسية تهدف لتفكيك الجبهة الداخلية

وفقاً لمسؤولين أوروبيين، فإن روسيا لا تسعى من خلال هذه الهجمات إلى إحداث أضرار مادية فقط، بل تهدف إلى، بثّ الذعر في المجتمعات الأوروبية، وتقويض ثقة المواطنين بحكوماتهم، وزعزعة الدعم الشعبي لأوكرانيا، وخلق انقسامات داخل الناتو والاتحاد الأوروبي.

وتعد كل حادثة تشويش، طائرة مسيّرة، وقصة مضللة تنتشر عبر "تليغرام" أو "إكس"، رصاصة في حرب نفسية متكاملة، إذ إن هذه التكتيكات ليست جديدة تماماً. فروسيا بدأت باختبار استراتيجيات الحرب الهجينة في أوكرانيا وجزيرة القرم عام 2014، عبر "الرجال الخضر"، قوات غير نظامية بدون شارات عسكرية، وباستخدام التضليل الإعلامي والهجمات السيبرانية. ومنذ الغزو الشامل لأوكرانيا في فبراير/شباط 2022، توسعت هذه الأساليب لتصل إلى العمق الأوروبي.

تقرير استخباري نرويجي صدر في بداية عام 2025 حذر من أن موسكو "على الأرجح ستكثف عملياتها الهجينة في دول الشمال الأوروبي"، وهو ما أثبتته الوقائع الأخيرة.

أمثلة بارزة من ساحات الحرب الهجينة الروسية في أوروبا:

  • ألمانيا (2022–2025): طردت برلين أكثر من 50 دبلوماسياً روسياً على خلفية أنشطة تجسسية، وتم كشف خلايا نائمة كانت تُخطط لتخريب منشآت طاقة ونقل.
  • فرنسا (2023): تعرّضت شبكة الكهرباء لهجوم سيبراني تسبب في قطع التيار جنوب البلاد لساعات، وربطت التحقيقات الهجوم بمجموعة مرتبطة بالاستخبارات الروسية.
  • السويد ولاتفيا: سجّلت اختراقات سيبرانية لمنصات حكومية وبنية تحتية، بالتزامن مع تقارير عن نشر مقالات ومقاطع مفبركة عبر حسابات مزيفة لاستهداف مؤسسات الدولة.

إجمالاً، فإن ما يحدث اليوم من بحر البلطيق إلى بحر الشمال، ومن ألمانيا إلى إستونيا، ليس موجة تخريبية عشوائية، بل نمطٌ واضح من الصراع يختبر حدود الصبر والردع الأوروبي، فيما تجد أوروبا نفسها، بحسب تقديراتها الذاتية، أمام اختبار مزدوج: أن تُحصّن بنيتها التحتية دفاعياً وتقنياً، وألا تقع في فخ الذعر والتراجع، لأن الهجمات الهجينة لا تنجح فقط حين تُنفذ، بل حين تُصيب المجتمعات في عمقها النفسي والسياسي.

روسيا لم تطلق صاروخاً واحداً على عاصمة أوروبية. لكنها خلال أشهر قليلة، عطّلت مطارات، اخترقت شبكات طاقة، زعزعت ثقة المجتمعات، وبثّت الذعر في أكثر من عشر دول. فهي حرب لا تُرى، لكنها بالتأكيد تُحسم في الظلال.