استمع إلى الملخص
- يسعى ميرز لتعزيز العلاقات الألمانية الأمريكية من خلال "الجسر الأطلسي"، مع التركيز على استقلالية الدفاع الأوروبي ودعم أوكرانيا، مستفيدًا من خبرته في المال والأعمال، رغم التوترات السابقة في عهد ميركل وترامب.
- داخليًا، يواجه ميرز تحديات مثل نقص الاستثمار في البنية التحتية والتعليم، وتصاعد شعبية اليمين المتطرف، ويسعى لتطبيق سياسات لجوء صارمة ومنع حزب البديل من أجل ألمانيا من الوصول للسلطة في انتخابات 2029.
مع تشكيله حكومة ائتلافية بين حزبه الاتحاد الديمقراطي المسيحي (من حزبي الديمقراطي المسيحي/الاتحاد الاجتماعي المسيحي) ويسار الوسط الاجتماعي الديمقراطي، يصبح المستشار الألماني المحافظ فريدريش ميرز رسمياً أمام تحديات إثبات قدرة ألمانيا على مواجهة معضلاتها الداخلية وتخفيف حالة الاستقطاب الداخلي، ولعب دور قيادي في أوروبا، وجسر الهوّة مع الحليف الأميركي، وسط تلاطم أمواج المصالح ومخاطر تقدم الشعبوية اليمينية المتشدّدة نحو السلطة بعد سنوات قليلة، ذلك برغم تصنيف الاستخبارات لحزب البديل أمن أجل ألمانيا، حركةَ يمينٍ متطرّف.
تحديات ووعود ريادة ألمانيا
في الخطوط العريضة يبدو ميرز (69 عاماً) بحاجة إلى سياسات غير اعتيادية، تعهد الرجل بلعب ألمانيا دوراً محورياً في أوروبا، والسعي إلى مد الجسور عبر الأطلسي مع عودة دونالد ترامب إلى سياسات تصادم مع القارة الأوروبية.
وفي مارس/آذار الماضي، بعد نحو شهر من تحقيق معسكره المحافظ فوزاً على بقية الأحزاب، دون إغفال تحقيق "البديل" تقدماً إلى نحو 20%، عرض المستشار ميرز خطة جديدة لبلاده من أجل تمويل مشاريع كبيرة، من خلال تعليق جزئي لكبح ديون البلاد. وتلك قضية وجهت فيها الحكومة السابقة بزعامة أولاف شولتز، وزير المالية الليبرالي كريستيان ليندنر، بعدم المس بسقف المديونية المحدد دستورياً بـ0.35% من إجمالي الناتج المحلي. وهي نسبة أقرت زمن المستشارة السابقة من معسكره أنغيلا ميركل، بعد عام من الأزمة المالية العالمية في 2008.
أكد ميرز على أن القفز عن تلك النسبة المئوية جاء لأنّ ألمانيا لديها "مهمة في الاتحاد الأوروبي والعالم، تتجاوز حدود بلادنا ورفاه شعبنا بكثير". ويبدو أن تحدي سقف الدين العام لن يكرّر، كما جرى في حكومة إشارة الضوء بزعامة شولتز (وضمّت الاجتماعيين الديمقراطيين والليبراليين والخضر). مع ذلك فإنّ إقلاع ألمانيا من حالة الركود لعامها الثالث يتطلب جهوداً مكثفة، فأسعار الطاقة المرتفعة تُهدد القدرة التنافسية للصناعة، إلى جانب أن البنية التحتية للبلاد بحاجة للتجديد. كما تُثير سياسة التعرِفات الجمركية المُتقلّبة للرئيس ترامب حالة من عدم اليقين بشأن صادرات الدولة الصناعية إلى الولايات المتحدة، أضف إلى ذلك أن برنامج إعادة التسلّح الضخم يتطلب من حكومة ميرز الائتلافية تعزيز الصناعة الألمانية، والسعي لتجنب حرب تجارية مع واشنطن، وربما من خلال مساعٍ أوروبية مشتركة، كما يأمل الرجل.
رهان ميرز على "الجسر الأطلسي"
في العلاقة المتشنجة بين أوروبا وأميركا، يُعرف ميرز كمناصر للعلاقة عبر الأطلسي، ليس بسبب إقامته وعمله في عالم المال والأعمال فحسب، بل أيضاً لترؤسه لعشر سنوات منظمة "الجسر الأطلسي" (Atlantik-Brücke) السياسية لتعزيز العلاقات الأميركية الألمانية، ولعلّه يتمكن من استدعاء مهاراته الدبلوماسية، وبصفته رجل أعمال سابق، للتعاطي مع ترامب دون تعريض "الجسر الأطلسي" للانهيار.
فهو جسور بدأ الضرّر فيه فترة ولاية ميركل، إذ لم تكن ولاية ترامب السابقة (خصوصاً مع عام 2017) أفضل حالاً من اليوم. توتر العلاقة دفع بميركل، والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، نحو إعادة التفكير بشأن رسوخ العلاقة بين الحليفين الأميركي-الأوروبي، وضرورة وجود استقلالية دفاعية وأمنية أوروبية.
في صفوف يمين الوسط المحافظ (الاتحاد الديمقراطي المسيحي) كان فريدريش ميرز يراقب وينأى بنفسه، وكأنه ينحني للعاصفة ريثما تمرّ. الأمر اليوم مختلف؛ فالرجل الآن في قمرة القيادة، وعليه تقع مهمة جسر الهوّة مع ترامب.
بالطبع ثمة ما هو حساس في هذه العلاقة، وخصوصاً باتهامات وُجّهت لفريق ترامب حول تدخلات في الشؤون الألمانية، ووصل الأمر مؤخراً إلى حد اعتبار وزير خارجيته ماركو روبيو تصنيف الاستخبارات الألمانية لحزب البديل من أجل ألمانيا حزبَ يمينٍ متطرّف بأنه "استبداد مقنّع"، مشدداً القول: "على ألمانيا أن تغيّر مسارها".
في المقابل، فإنّ وجود قواسم مشتركة بين ترامب وميرز، كتشاركهما أيديولوجية محافظة تنتقد الهجرة وتعارض ما يسمى "النوع الاجتماعي"، يسهل التواصل بينهما. وبالطبع لا يمكن القفز بسهولة عن اختلاف الجانبين حول مسألة العلاقة بروسيا، ودعم أوكرانيا عسكرياً ومالياً. ميرز يرى أن دعم كييف يظل أولوية، ووقف الدعم يساهم برأيه في نشوء وضع فوضوي وخطير، إلى جانب تعزيز صفوف أوروبا وزيادة استقلاليتها بصفتها لاعباً عالمياً.
في سبيل ذلك يؤمن ميرز أنه سيتعين على ألمانيا وأوروبا استثمار مبالغ أكبر في قضايا الدفاع، ودعم أوكرانيا، ولعل تلك النقطة تحديداً تجعله يلتقي وترامب في منتصف جسر العلاقة، إذ ظل الثاني يطالب أوروبا بتحمل مسؤوليتها بدل الاعتماد على أميركا. أكثر من ذلك، يذهب ميرز إلى ضرورة التعاون الوثيق بين الدول الأوروبية، وهو منفتح على التحدث مع القوتين النوويتين فرنسا وبريطانيا بشأن تقديم مظلة دفاعية لبلاده وأوروبا.
كبح اليمين المتطرّف حتى انتخابات 2029
على المستوى الداخلي الألماني يبدو المسار معقداً، فخطط ميرز للعب دور أكبر أوروبياً، على مستوى التسلّح ودعم أوكرانيا، بات يزعج شرائح كثيرة من الشعب الألماني المتذمر من ظاهرة إرهاق الحرب الأوكرانية المستمرة منذ 2022، وخصوصاً شرقاً (جمهورية ألمانيا الديمقراطية سابقاً)، إذ لا تبدو مهمةً سهلة إقناع ميرز للألمان بإنفاق مبالغ طائلة على ذلك، ومواصلة دعم كييف.
غير بعيد عن المسار الداخلي فإنّ ميرز يعرف أن البلاد تعاني من نقص الاستثمار في البنية التحتية والتعليم والرّقمنة، ومن عدم المساواة الاجتماعية ومن الاستقطاب السياسي، بل وبحسب أرقام رسمية يعيش خُمس الألمان في فقر، وتنهار الجسور، وتتهالك الطرق والسكك الحديدية. بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة للاستثمار في دور الحضانة والمستشفيات والإسكان والطاقة وحماية المناخ وغيرها من قضايا.
وتصريحات ميرز عن سياسات لجوء صارمة من أجل "زيادة كبيرة في عمليات ترحيل المهاجرين ورفضهم على حدود ألمانيا"، كما كرّر مؤخراً على التلفزيون الألماني، ليست بمعزل عن فهم الرجل لتذمر فئات ألمانية كثيرة من قضايا الهجرة، واستغلال اليمين المتشدّد لها لزيادة شعبيته.
والاستقطاب القائم يضع الطبقة السياسية التقليدية والراسخة، أمام تحدٍ جدي في أن يصبح حزب البديل من أجل ألمانيا قريباً من تولي السلطة في انتخابات 2029، إذ إنّ التلويح بحظره لن يكون حلاً، بسبب ما يقول الألمان إنها عملية تستغرق سنوات، ولا يُلغي التصنيف بالتطرّف بأن لدى القوميين المتشدّدين شعبية لا يمكن شطبها بقرار.
على كل، أمام المستشار الألماني الجديد فريدريش ميرز أربع سنوات مهمة، فإذا لم ينجح خلالها في ترسيخ الوسطيّة السياسية، ونقل بلاده من معاناتها مع مشاكلها، وجسر الهوة مع واشنطن، ووضعها على سكة قيادة أوروبا، فإن ذلك سيعتبر تعبيداً لطريق الانتقال من الوسطية إلى التطرف القومي.