ألمانيا تبحث عن جنود: التجنيد الطوعي تحت الاختبار في ظل نقص 60 ألف عنصر
استمع إلى الملخص
- أثار الاقتراح جدلاً سياسياً، حيث يدعم الحزب الاجتماعي الديمقراطي المشروع الطوعي، بينما يدعو الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى إدراج بند للتجنيد الإجباري، ويحذر الحزب الديمقراطي الحر من انتهاك الحريات الفردية.
- تعكس الخطة أزمة في الجيش الألماني الذي يحتاج إلى 60,000 جندي إضافي، وتواجه ألمانيا ضغوطاً لزيادة الإنفاق الدفاعي، مما يثير تساؤلات قانونية حول التكافؤ بين الجنسين.
في خطوة تعكس تحوّلاً تدريجياً في العقيدة الدفاعية الألمانية، أعلن وزير الدفاع بوريس بيستوريوس هذا الصيف عن خطة جديدة تهدف إلى إحياء نموذج التجنيد العسكري في ألمانيا، لكن وفق مقاربة مختلفة، تجنيد قائم على التطوع المنظَّم، على غرار النموذج السويدي، مع احتفاظ الحكومة بإمكانية اللجوء إلى التجنيد الإجباري عند الضرورة. ويقدّم بستوريوس، اليوم الأربعاء، مقترحه بشأن التجنيد.
ويأتي هذا التحوّل في لحظة حرجة للقارة الأوروبية، مع تزايد ما تراه القارة تهديدات أمنية على الجبهة الشرقية، وتصاعد التوترات بين الغرب وروسيا، خصوصاً مع استمرار الحرب في أوكرانيا، ودور ألمانيا المتنامي في الملف الأمني الأوروبي.
النموذج الجديد: تطوع ضمن إطار مُنظّم
يقترح بيستوريوس إعادة تجنيد الشباب الألمان عند بلوغهم سن 18 عاماً، من خلال إرسال استبيان يُلزم الرجال بالرد على الأسئلة، بينما يُتاح للنساء تعبئته اختيارياً. يتم استخدام هذه البيانات لتحديد مدى الاستعداد البدني والنفسي للمشاركة في الخدمة العسكرية. وفي حال أثبتت الردود وجود رغبة واستعداد، يتم استدعاء المتطوعين للفحص والتدريب. الهدف المبدئي هو جذب خمسة آلاف مجند طوعي سنوياً، على أن تزداد هذه الأعداد تدريجياً لتصل إلى 40 ألفاً سنوياً. الخدمة العسكرية في النموذج الجديد تمتد لستة أشهر قابلة للتمديد حتى 23 شهراً، وتشمل مزايا عدة، مثل الراتب الجيد، السكن المجاني، الرعاية الصحية، والنقل المجاني بالقطارات.
وعن هذا، يقول وزير الدفاع بوريس بيستوريوس: "نريد خدمة تطوعية قوية، لكن نحتاج أيضاً إلى ضمانات احتياطية في حال لم ينجح التطوع وحده". ذلك يعني أنه يمكن تفعيل خدمة إجبارية، لكن ذلك يتطلب تصويتاً من البرلمان الاتحادي (البوندستاغ)، وليس آلياً.
انقسام سياسي داخل الحكومة
أثار الاقتراح جدلاً واسعاً داخل الائتلاف الحاكم في برلين بين الحزب الاجتماعي الديمقراطي (SPD)، والاتحاد الديمقراطي المسيحي (CDU)، بزعامة المستشار فريدريش ميرز، الذي يعاني من تراجع شعبيته في الاستطلاعات. هذا إلى جانب تباين مواقف حزبي الخضر والديمقراطي الحر (FDP)، من القضية مثار الجدل.
يدعم الحزب الاجتماعي الديمقراطي المشروع الطوعي الجديد، لكنه يعارض العودة إلى التجنيد الإجباري التقليدي. يوافق الحزب على تقديم دعم لأوكرانيا، لكنه يرفض في المقابل نشر القوات الألمانية في البلد الذي مزقته الحرب، ويعتبره "أمراً غير مناسب، في ضوء الحرب العالمية الثانية، وحرب الإبادة الألمانية"، كما صرّح عضو البوندستاغ عن الحزب رالف شتيجنر لصحيفة تاز. ويرى نائب المستشار ووزير المالية لارس كلينغبيل أن النقاش حول القوات الألمانية في أوكرانيا "متسرع".
أما "الاتحاد الديمقراطي المسيحي"، الشريك الأكبر في الحكومة، فيرى أن المشروع غير كافٍ ويدعو إلى إدراج بند تفعيل تلقائي للتجنيد الإجباري إذا لم تحقق الخطة أهدافها الطوعية. وتتعارض المواقف داخل الحزب، حيث عبّر رئيس وزراء ساكسونيا مايكل كريتشمر عن معارضته لنشر ألمانيا قوات عسكرية في أوكرانيا. وصرّح في مقابلة مع مجلة دير شبيغل قائلاً: "الجيش الألماني لا يملك الظروف المناسبة لذلك"، مضيفاً: "يجب أن تتصرفوا فقط بقدر قوتكم". وصرح وزير الخارجية يوهان فادفول بأن الجنود الألمان في أوكرانيا "سيكونون على الأرجح فوق طاقتنا".
من جهة أخرى، يحذّر "الديمقراطي الحر" من "انتهاك الحريات الفردية"، ويرى أن الإلزام يتعارض مع المبادئ الليبرالية، داعياً إلى تعزيز جاذبية الجيش بدلاً من فرض الخدمة.
أزمة بنيوية للجيش الألماني
تكشف هذه الخطوة عن أزمة بنيوية داخل الجيش الألماني، إذ وفقاً لبيانات وزارة الدفاع، يحتاج الجيش إلى ما لا يقل عن 60 ألف جندي إضافي ليتمكن من الوفاء بالتزاماته ضمن قوات حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ورفع جهوزيته في حال نشوب صراع مسلح. ويبلغ عدد الجنود الفعليين حالياً نحو 180 ألفاً فقط، أي أقل بكثير من حاجته المثلى المقدرة بـ460 ألفاً (منهم 260 ألف جندي نظامي، و200 ألف احتياطي). كما أن البنية التحتية الحالية للجيش غير قادرة على استيعاب هذا العدد الكبير من المجندين، ما يتطلب خطة توسعة كبيرة للمعسكرات والمنشآت التدريبية. يُذكر أن ألمانيا ألغت التجنيد الإجباري في عام 2011، وهو ما أدى إلى تراجع كبير في أعداد القوات العاملة.
السياق الأوروبي ودور ألمانيا
التحول في سياسات التجنيد لا يمكن فصله عن التحولات الجيوسياسية الكبرى، وأهمها:
- تعهد المستشار ميرز في زيارته الأخيرة لواشنطن بأن تلعب ألمانيا دوراً مركزياً في ضمانات الأمن الأوروبي ودعم أوكرانيا، في إشارة إلى احتمال إرسال قوات حفظ سلام في المستقبل في حال تم التوصل إلى اتفاق سلام مع روسيا.
- مواجهة ألمانيا ضغوطاً من الولايات المتحدة لتحمّل مسؤولية أكبر في أمن أوروبا، لا سيما في ظل انشغال واشنطن بمناطق أخرى من العالم.
- تعهد الحكومة الألمانية، على مستوى التمويل، بزيادة الإنفاق الدفاعي إلى ما يفوق 2% من الناتج المحلي الإجمالي، مع تخصيص موازنة تصل إلى 500 مليار يورو لتحديث الجيش حتى عام 2035.
عموماً، رغم الطابع التطوعي للخطة، فإن إدراج عنصر الإلزام في الاستبيان الموجه للذكور يثير تساؤلات قانونية حول التكافؤ بين الجنسين والحقوق الدستورية، وهناك أيضاً تساؤلات حول مدى فعالية الخطة في استقطاب أعداد كافية، دون اللجوء فعلياً إلى التجنيد القسري. ويبدو أن برلين تتجه نحو تغيير في عقيدتها الدفاعية، مدفوعة بتصاعد التهديد الروسي، وتراجع الاعتماد على القوات الأميركية، ما يضعها أمام خيارين صعبين: المراهنة على جيل جديد من المتطوعين، أو العودة الصريحة إلى التجنيد الإجباري. المؤكد أن النقاش حول دور ألمانيا الدفاعي عاد بقوة، وأن المشروع الجديد سيختبر قدرتها على تحقيق التوازن بين الأمن والحرية في بيئة أوروبية مضطربة.