استمع إلى الملخص
- الأطفال في غزة يعانون من الحرمان ويضطرون للعمل في ظروف قاسية، مما يحول أحلامهم إلى كوابيس بسبب الصراع المستمر.
- أظهر الفلسطينيون قدرة على التكيف بإنشاء خيام تعليمية بدعم من اليونيسف، مما ساهم في توفير التعليم للأطفال وتحويل الخيام إلى مدارس مؤقتة.
بعد عام ونيف من الحرب على قطاع غزة، وبينما تعصف الحرب بحياة الغزيين من كلّ حدبٍ وصوبٍ، وتغرق المدينة في الركام رويدًا رويدًا، تشهد القطاعات الخدماتية والتعليمية في القطاع انهيارًا تلو الآخر، بفعل الإبادة الجماعية التي يتعرض لها كلّ ما هو غزّيٌ من بشرٍ وحجرٍ، ويدخل العام الدراسي الثاني على التوالي على الطلاب والأطفال من دون وجود مؤسساتٍ تعليميةٍ، أو مدارس تعنى بالتعليم، بعدما شهد قطاع التعليم تحديدا انهيارًا كاملاً، ولم يعد هناك وجودٌ لأيّ مدارس تقوم بدورها في غزّة نتيجة الاستهداف المتواصل، فنصف المرافق التدريسية دمرها الاحتلال، والنصف الآخر تحول إلى مراكز إيواءٍ للنازحين الذين هرعوا إليها بعد أن فقدوا بيوتهم، ليكون المشهد الأخير هو خلو غزّة من أيّ مظاهر تعليميةٍ اعتياديةٍ، وحرمان أطفالها من حقّهم الشرعي الذي كفلته لهم كلّ التشريعات والقوانين الدولية، ألا وهو حقّهم في التعليم.
ما زال أطفال قطاع غزّة يدفعون الثمن الباهظ جراء هذه الحرب، فحسب بيانات الصحة الفلسطينية، فإن الشريحة الأكبر من شهداء هذه الإبادة من الأطفال، بل لم يقتصر الأمر على قتلهم فحسب، بل تمادى إلى تجويعهم وحرمانهم من أبسط أساسيات الحياة من مأكلٍ ومشربٍ وملبسٍ، والآن يُحرمون حتّى من طفولتهم.
كان لزامًا أن يسخّر فطرته الفلسطينية كي يبحث عن حلول يناضل بها في وجه العدوان، فسرعان ما بادر بعض المعلمين والمعلمات، بجهودهم الشخصية، إلى إنشاء خيام تعليمية بسيطة
أولئك الصغار الذين وجدوا أنفسهم يلتحفون زمهرير الخيام بدلاً من أسرتهم الدافئة، ويستيقظون منذ الفجر لا ليذهبوا إلى مدارسهم، بل لكي يقفوا في طوابير الخبز، ويجلسون في أدوار المياه الطويلة، بعدما كانوا يجلسون على مقاعدهم المدرسية، ويحملون بعض الحلوى والمعلبات يجوبون بها الشوارع باعةً متجولين بعدما كانوا يحملون حقائبهم التعليمية، ويتنافسون على وجبة طعام من إحدى التّكيّات، بعدما كانوا يتنافسون في المسابقات العلمية، ويركضون هربًا من الصواريخ بدل أنّ يركضوا خلف الكرة في حصص الأنشطة الرياضية، إذ حولت الحرب أحلامهم إلى كوابيس، وغيرت جيناتهم من أطفالٍ عاديين إلى "عمّال مناجم" يقومون بالأعمال الشاقة من أجل توفير قوت يومهم.
من رحم الظلمات يولد البرق
وسط هذه المعاناة كلّها، والأزمات التي تلاحق الصغير قبل الكبير في غزّة، يظهر لي على الناصية الأخرى وجه الفلسطيني الذي تعلم جيدًا كيف يلَمع في وسط الظلام، وكيف يزهر وسط الحرائق، وكيف يتخطى معاناته بما توفر في يده من فُتات، فكان لزامًا أن يسخّر فطرته الفلسطينية كي يبحث عن حلول يناضل بها في وجه العدوان، فسرعان ما بادر بعض المعلمين والمعلمات، بجهودهم الشخصية، إلى إنشاء خيام تعليمية بسيطة بأقلّ الإمكانيات المتوفرة، من خيمة صغيرة، ولوح خشبي، وقطعتي طبشور للكتابة، وبعض الفرش للجلوس عليها، لتكون هذه الخيمة الصغيرة بمثابة شرارة البداية، بعد أن لاقت ترحيبًا واسعًا بين الأطفال الذين يتوقون إلى مدارسهم، وإلى ممارسة جزءٍ من حقوقهم وطفولتهم، حتّى لو كانت هذه الخيام بنصف الدوام الأسبوعي، وبنصف المواد الأساسية، فهي تتمثّل في النهاية تعويضًا بسيطًا عما فاتهم طوال العام.
شيئًا فشيئًا بدأت هذه المبادرات والخيام التعليمية تجد صدىً واسعًا من الأطفال والأهالي على حدٍّ سواء، فانتشرت مثل النار في الهشيم، وبدأت المؤسسات الدولية مثل اليونيسف بتبنّيها وتلبية نداء معلميها، من أجل ضمان حقّ هؤلاء الأطفال في تلقي تعليم بسيط، ومن أجل تفريغهم نفسيًا من آثار الحرب وويلاتها.
الآن وبعد بدء العام الدراسي الجديد، ومرور شهرين على هذا المشهد وهذه المبادرات، لا تكاد تخلو منطقة في جنوب القطاع تحديدًا من تلك الخيام التعليمية، ولا يخلو مخيّمٌ للنازحين في المواصي من تلك الخيمات التعليمية، التي تطورت إلى ما يشبه المدارس المكونة من خيامٍ عدّة، كلّ خيمة على هيئة فصلٍ مدرسيٍ يجلس فيها الأطفال على ما توفر من مقاعد أو كراسي، يفتحون كتبهم وكراساتهم الصغيرة، ويصدحون بإرادتهم التي لا تثنيها الحرب عن حب البلاد، وينشدون بصوتهم ما تيسّر من الأغاني، ويقرؤون ما ترتل من القرآن، ويمسكون بأقلامهم ليوثقوا وقوفهم أمام ظلم هذا العالم، وتمسكهم بحقّهم في الحياة.