"واشنطن بوست" تقرأ حال تونس مع نكسة الربيع: المنفى بوابة أمل أخيرة

"واشنطن بوست" تقرأ حال تونس مع نكسة الربيع: المنفى بوابة الأمل الأخيرة

03 اغسطس 2022
مهاجرون تونسيون في لامبيدوزا الإيطالية (Getty)
+ الخط -

أفردت صحيفة "واشنطن بوست" تقريرًا مطوّلًا لقراءة واقع الحال في تونس بعد الاستفتاء الذي حشد له الرئيس قيس سعيد، وقوبل بعزوف شعبي واسع النطاق، وعُدّ حلقة مفصليّة أخرى في مسلسل النكوص عن المكتسبات الديمقراطية التي راكمتها تونس، منذ اندلعت من قلبها، من سيدي بوزيد، شرارة الربيع العربي الأولى قبل نحو 12 عامًا. وفي ما يلي مضمون التقرير:

"قبل ثلاثة أيام فقط من تصويت التونسيين على الدستور الجديد، الذي تعهد الرئيس قيس سعيد بأنه سيكون سبيلًا نحو الازدهار، ورأت مؤسسات حقوقية أنه يقضي على الديمقراطية الناشئة، كان نوري سيف يجلس على مقعد في وسط العاصمة، مهمومًا فقط بالأسعار التي يتقاضاها المهربون من أجل نقل المهاجرين الشباب إلى أوروبا. يقول إن تكلفة أرخص رحلة هي حوالي 1200 دولار، بينما يكلف المهرب الذي يقدم ضمانات أفضل أكثر من 3000 دولار.

في نفس الشارع في العاصمة، لكن قبل أحد عشر عامًا تقريبًا، كما يروي تقرير أعده مدير مكتب صحيفة "واشنطن بوست" في تونس، تجمعت حشود من المدنيين لمطالبة الديكتاتور السابق زين العابدين بن علي بالتنحي بعد سنوات من الاستبداد. فر بن علي من البلاد، ومات في وقت لاحق خارجها، فيما بدأت تونس عملية طويلة لإعادة تشكيل نفسها كدولة ديمقراطية، بل ربما الدولة الوحيدة التي نجت من اضطرابات ما بعد الربيع العربي.

أما الآن، فإن نوري البالغ من العمر 27 عامًا، والذي ترك منزله مؤخرًا في بلدة صغيرة جنوب العاصمة، ينام في الشارع ويبحث عن أي عمل من أجل توفير ما يلزم هجرته إلى أوروبا. مثله مثل العديد من الشباب التونسي من جيله، يقول تقرير "ذا بوست"، انطفأت شرارة الأمل التي أشعلها الربيع العربي في صدورهم. الآن، لا يشعر سوى بخيبة أمل من النخبة السياسية والأزمة الاقتصادية المتفاقمة، ولا يرى سوى طريق واحدة بعيدًا عن هذه المأساة: مغادرة البلاد.

كان المسار السياسي في تونس أعقد مما ظنه كثيرون. ولعل الشعور باليأس العام الآن، هو ردة فعل على حجم التفاؤل الذي عم البلاد عقب ثورة 2011، عندما كان مسار الهجرة عكسيًا، وعندما كان الشباب يعودون من الخارج إلى البلاد لدعم الثورة والمشاركة في بناء مستقبل ديمقراطي.

إنه بلد يعيش فيه رجال الشرطة والأثرياء فقط في سعادة

قدمت تونس مثالاً كدولة قبلت الأحزاب السياسية الإسلامية، بما في ذلك حزب النهضة المعتدل، الذي كان لفترة طويلة جزءًا من الحكومات الائتلافية. وفي الوقت الذي انزلقت فيه دول أخرى في المنطقة إلى الاستبداد أو الحرب الأهلية، كتبت تونس دستورًا جديدًا وضمنت بعض الحريات الأساسية، ما جعلها نموذجًا لمن يتطلعون إلى التغيير في دول عربية أخرى.

لكن هذا الوضع لم يدم طويلًا، فقد تعثرت الديمقراطية الناشئة في البلاد. أما الخلافات فقد جعلت من النخب السياسية منقسمة وغير قادرة على التغلب على الأزمات الاقتصادية أو الوفاء بوعود الثورة. وهو ما تسبب بشعور عام بالخيبة، أدى في نهاية المطاف إلى أن يصوت التونسيون لقيس سعيد كرئيس جديد، لا يعرفونه تمامًا، لكنه بعيد عن النخبة السياسية، وكان الاعتقاد السائد بأنه أستاذ جامعي لديه سجل مختلف.

ستتغير الأمور سريعًا، وتصل إلى ذروتها عندما يقرر سعيد، في الصيف الماضي، حل البرلمان وسط تدهور الأوضاع الاقتصادية وتفشي فيروس كورونا والخلافات بين النواب، في خطوة وصفتها مؤسسات حقوقية عديدة بأنها انقلاب على مؤسسات الدولة، وبداية لفرض سلطة الرجل الواحد. مع ذلك، فإن الرئيس القادم من أروقة الجامعة، وعد بأن السيطرة الكاملة على السلطات هي الطريقة الوحيدة لإصلاح الوضع. وفي نفس الوقت، فإن بعض المتحمسين له، تحديدًا من أولئك المعارضين لحركة النهضة، دعموا هذه الإجراءات الاستثنائية. سيتغير الوضع بطبيعة الحال في الأشهر القليلة التالية، وسرعان ما ستبدأ قاعدة المعجبين بسعيّد بالتخوف من قبضته المتزايدة على السلطة ومن تهديدها للديمقراطية في تونس، خاصة بعد حملة منظمة استهدفت استقلال القضاء، وتقديم دستور جديد من اقتراحه هو شخصيًا، يمنحه سلطات أوسع.

أحد هؤلاء الذين أيدوا قرار حل البرلمان، لكنهم الآن يعارضونه بشدة، هو محمد عبو، المحامي والسياسي الذي سجن إبان نظام بن علي. يقول عبو في حديثه مع الصحيفة الأميركية، إن تونس "كانت مصدر إلهام هاجمه الفاسدون ولاحقًا شخص مجنون"، في إشارة إلى الرئيس المثير للجدل. مثله مثل عديد من المتابعين، يشير أن سعيد استغل السخط الواسع لدى الناس على الوضع الاقتصادي. إنه يعد بتونس جديدة ومزدهرة، لكن ما يقدم عليه فعلًا هو القضاء على الديمقراطية في البلاد من خلال تشييد نظام حكم الرجل الواحد بشكل تدريجي.

من جهته، فإن أنور بن قدور، القيادي في الاتحاد العام التونسي للشغل، يرى أن سعيد كان قادراً على تفكيك النظام السياسي من خلال تقديم مجموعة من الحلول الخادعة للشباب. مستدركًا: "لا يمكننا استخدام الشعبوية لنقول للجميع إن كل المشاكل ستُحل غدًا".

مع ذلك، فإن حتى من ناصروا خطوات سعيّد الاستثنائية، لم يريدوا تفكيك الديمقراطية، كما تشير مونيكا ماركس أستاذة سياسات الشرق الأوسط. لقد كانوا مقتنعين فقط أن الرئيس المثير للجدل سيكون قادرًا على معالجة مشاكل البلاد المتجذرة منذ سنوات. تضيف: "لم يخرجوا إلى الشارع (الصيف الماضي) معتقدين أنهم ينهون الديمقراطية. لقد خرجوا إلى الشارع ظانين أن هذه هي أفضل فرصة لتحقيق أحلامهم الثورية".

وفي حين ألقى العديد من التونسيين باللوم على حزب النهضة على الإخفاقات السياسية التي وصلت إليها البلاد، غير أن مسؤولي الحزب، مثلهم مثل آخرين من المعارضين لانقلاب سعيّد، يشيرون إلى أن هذه المزاعم تسعى إلى استخدام النهضة ككبش فداء. في هذا السياق، فإن رئيس الحزب راشد الغنوشي، والذي يخضع للتحقيق في مزاعم ينفيها بشكل قاطع حول مشاركته في عملية غسيل أموال، أقر بأن "السنوات العشر الماضية لم تكن عقدًا من الازدهار الاقتصادي"، لكن "10 سنوات من الحرية لم تُمح، ولا تزال في أذهان الناس وقلوبهم".

أما سعيد فرجاني، النائب عن حركة النهضة في البرلمان الذي تم حله، والذي تعرض للسجن والتعذيب في تونس في الثمانينيات، فيقول "لقد وقفنا وحاولنا أن نفعل كل ما نستطيعه". يتابع: "في نهاية المطاف، فإن الخيار هو بين قبول الدكتاتورية والانصياع لها، أو الوقوف ضدها ومحاربتها بطريقة مدنية".

لا تبدو هذه الخيارات ذات أهمية كبيرة الآن بالنسبة لنوري، الذي لا يعني أي حل بالنسبة له سوى التركيز على الهجرة، فوضع والدته المريضة، وحاجتها للإعالة، يجعله "خائفًا من البقاء هنا". إنه بلد "يعيش فيه رجال الشرطة والأثرياء فقط في سعادة"، كما يقول بحسرة تشبه حسرة رفاقه الذين نزلوا إلى الشوارع قبل 10 سنوات على أمل تحقيق مستقبل أفضل".