نفّذت حركة "النهضة" وعدها، وأنزلت أكثر من 60 ألفاً من أنصارها إلى شوارع العاصمة التونسية، يوم السبت الماضي، حيث تمّ اختيار الشعارات بعناية، ورفع الراية الوطنية. وبدا الفرق شاسعاً من حيث الحضور، بين مسيرة "النهضة"، وتلك التي نظّمها حزب "العمال"، الذي تظاهر مناضلوه في اليوم ذاته، دون أن يتجاوز عددهم الـ300. وهذه المقارنة تنطبق أيضاً بالنسبة لتحرك حزب الدستوري الحرّ في الشارع قبل نحو عشرة أيام، والذي تضعه استطلاعات الرأي على رأس الأحزاب الفائزة بنوايا التصويت للانتخابات التشريعية. هل يكفي ذلك للتوصل إلى حلّ للأزمة السياسية التي تعصف بتونس؟ وهل تنظيم مسيرة ناجحة – على الرغم مما تخلّلها من اعتداء على بعض الإعلاميين – من شأنه أن يساعد على الدفع نحو تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة جداً للتونسيين؟
المستفيد الرئيسي من مسيرة "النهضة" هي الحركة ورئيسها راشد الغنوشي
تمّ التركيز خلال الأشهر الأخيرة على حركة "النهضة" من قبل خصومها، في سياق الأزمة. هذا الوضع دفع بالحركة للاعتقاد بكونها مستهدفة إعلامياً وسياسياً، بهدف إرباكها والتقليل من شأنها وتحجيم دورها، وتقديمها في صورة شديدة السلبية، باعتبارها تشكل تهديداً للوحدة الوطنية، وحركة تعاني من أزمات خطيرة بدأت تؤثر فيها، وستقلص من حجمها وتدفع بها نحو الانقسام والتفكك. وقد انعكست هذه الحملة على الأجواء الداخلية للحركة التي تشكو من عللٍ خطيرة، خصوصاً بعد خروج البعض من وجوهها القيادية عن تقاليد السرّية والتحفظ التي دأبوا عليها سابقاً، كاشفين عن وجود أزمة داخلية قد تؤدي إلى العصف بوحدة "النهضة" وتماسكها العضوي.
المستفيد الرئيسي من هذه المسيرة هي حركة "النهضة" التي استعرضت قوتها، ونجحت في تعبئة أنصارها، وأظهرت للجميع بأنها لا تزال الحزب الأكبر في البلاد. أما المستفيد الثاني، فهو من دون شك رئيس الحركة (ورئيس البرلمان التونسي) راشد الغنوشي، الذي تعرض ولا يزال لانتقادات قوية من داخل "النهضة". وتكفي الإشارة في هذا السياق، إلى كون الغنوشي لا يزال مُطالباً بعدم الترشح لرئاسة الحركة خلال مؤتمرها المقبل. حصل ذلك في وقت تتكاتف فيه الجهود وتتكرر المحاولات من أجل إبعاد الرجل أيضاً عن رئاسة البرلمان. ولهذه الأسباب، استثمر الغنوشي جيّداً في هذا الحشد الكبير والنادر من الموالين للحركة، ليظهر في صورة الزعيم القادر على التوحيد والدفاع عن تونس وديمقراطيتها الناشئة، وقبوله بالتنوع الذي يُميّزها.
حتى أن الغنوشي، في أوّج ذلك المشهد الحماسي السبت الماضي، وجّه دعوة إلى منافسه زعيم حزب "العمال" حمة الهمامي واصفاً إياه بـ"الأخ"، كي يخاطب النهضويين والتونسيين من فوق المنبر الذي يتحكم فيه زعيم الحركة، في محاولة من الأخير لتجاوز الخلافات، وإظهار مدى قدرته على الانفتاح. وذكّر الغنوشي الهمامي، بإضراب الجوع الجماعي الذي شارك فيه يساريون وإسلاميون لمواجهة الديكتاتورية. لكن الأخير قابل دعوة رئيس "النهضة" بلهجة مختلفة، حين عقّب عليها بقوله: "ليس لي أخ اسمه الغنوشي، وسياسياً لست أخاك، بل نحن خصوم". لكن خلافاً لهذا التعقيب الجاف لزعيم "العمال"، فاجأت الكاتبة والجامعية ألفة يوسف، المعروفة بنقدها الجذري للإسلاميين، وفي مقدمهم الغنوشي، متابعيها، بتعليق مختلف في لهجته ومحتواه، عندما وصفت رئيس "النهضة" بعد انتهاء المسيرة، بكونه "رجل سياسة بامتياز". وأضافت يوسف: "أخالف توجهاته الفكرية، لكني أحترم حريته في التعبير عن رأيه"، داعية إلى التخلي عن عقلية الانتقام.
دخل سفراء أجانب على خطّ الأزمة، لكن قيس سعيّد تمسك بمطلبه إسقاط الحكومة
من الصعب جداً أن تغيّر هذه المسيرة في موقف الرئيس التونسي قيس سعيّد من الأزمة السياسية الراهنة. على العكس من ذلك، فقد أجّجت مسيرة "النهضة" في سعيّد مشاعر الرفض والعداء، وجعلته يوجه لخصومه نقداً لاذعاً ومبطناً، قائلاً: "لست منهم وليسوا مني". هذا الأمر جعل مراقبين يستبعدون عودة المياه السياسية إلى مجاريها، على الرغم من دخول السفراء الأجانب في تونس على الخط، بعدما كثّفوا من زياراتهم إلى كبار المسؤولين في الدولة وفي البرلمان. وتحول هؤلاء السفراء إلى دعاة حوار، حيث أكدوا على ضرورة العودة مجدداً إلى التوصل لتوافق جديد يحمي البلاد من الانهيار الكامل. لكن الرئيس سعيّد، لا يزال متمسكاً بمطلبه الرئيسي الخاص بإسقاط الحكومة، واستقالة رئيسها هشام المشيشي. وهو طلبٌ لن تقبل به حركة "النهضة"، خصوصاً بعدما نزل أبناؤها إلى الشارع، وأعلنوا أمام الجميع دعمهم للحكومة وتمسكهم ببقائها.
هكذا يستمر حوار الصمّ في تونس، في انتظار أن تنجح منظمات المجتمع المدني في تسوية الخلاف القائم بين "الأخوة الأعداء"، إذ عادت فكرة إطلاق حوار وطني خلال الأيام أو الأسابيع المقبلة بعدما استحال منطق الغلبة، ولم يتمكن أي طرف من أن يقصي باقي الأطراف.