"العرش"... عصيّ على التجاهل في الانتخابات الجزائرية

"العرش"... عصيّ على التجاهل في الانتخابات الجزائرية

09 يونيو 2021
خلال الحملة الانتخابية الرئاسية في عام 2014 ( فاروق بطيش/فرانس برس)
+ الخط -

مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية المبكرة في الجزائر، المقررة يوم السبت المقبل، وانتهاء المهلة الممنوحة للدعاية الانتخابية الأسبوع الماضي، تتحرك أدوات انتخابية أخرى لتوجيه الكتلة الناخبة على المستويات المحلية في الأيام المتبقية التي تفصل عن يوم الاقتراع. ويبرز في بعض المناطق الداخلية في الجزائر عامل "العرش" (العشائرية)، كإحدى هذه الأدوات بالغة التأثير، مع تدافع الأحزاب والقوائم للفوز بثقة و"وعد" أعيان العشائر وعقلائها بدعمهم في الانتخابات. ويقرّ قادة أحزاب عدة بالتأثيرات العشائرية على توجهات الناخبين، ويعبّرون عن مخاوفهم من استمرار تأثير ذلك في تحديد نسبي لاختيارات الكتلة الناخبة، على الرغم من تطور النسيج المجتمعي في الجزائر.
وحول الدور العشائري في الانتخابات، اعتبر رئيس حزب "جيل جديد" جيلالي سفيان، في ندوة عُقدت يوم الأحد الماضي، أن الضغوط والتأثيرات العشائرية في الانتخابات، هي حقيقة سياسية ومجتمعية لا يمكن إنكار وجودها. ورأى أنه "لا يمكن أن ننكر أن مجتمعنا يميل في مثل هذه المناسبات إلى الجهوية، العروشية (العشائرية) واتباع المصالح الشخصية والمحلية"، داعياً في الوقت نفسه إلى "تجاوز التقاليد والأعراف المعمول بها، لإحقاق وضع سياسي واضح المعالم، تتحكم فيه المعايير والبرامج والأفكار، أكثر من أية ارتباطات قبلية أو عروشية".


توفر القبيلة رأس المال الاجتماعي في الانتخابات

لكن العشائر في بعض مناطق الجزائر، خصوصاً في تبسة وخنشلة، شرقي البلاد، والجلفة والمسيلة وغرداية، في وسطها، والشلف وعين الدفلى، في غربها، وبدرجة أقل في مناطق الجنوب، تسبق تفكير الأحزاب السياسية من الناحية البراغماتية. وتلجأ العشائر غالباً إلى وضع مرشح من أبنائها في كل قائمة، فتضمن العشيرة الفوز في أي لائحة. وفي بعض المناطق تُجري العشائر اجتماعات لتسمية مرشحيها. ومن بين هؤلاء، الطالب الجامعي حسين بزينة، الذي يعمل في قطاع الإعلام، وكان من بين الذين تقدموا بترشيحهم لعشيرته في منطقة تبسة، والتي يتقاسم النفوذ فيها عرشان كبيران، أولاد سيدي عبيد والنمامشة، لكن الترشيحات كانت قد فاتته، لذلك لم يفكر في الترشح خارج إرادة العشيرة، لأن ذلك سيجعله على هامش النتائج.

ولم تخلُ الحملة الانتخابية التي انتهت، أمس الثلاثاء، من لجوء عدد من المرشحين إلى استخدام العمل العشائري، والذي يعد من المحدّدات الأساسية لنتائج الانتخابات البرلمانية في بعض المناطق، بسبب تحكّم العشائرية في سلوك الناخبين، خصوصاً في الريف ومناطق الداخل بشكل جلي.

ويبدي المحلل السياسي يحيى بوزيدي في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، اعتقاده أن "الانتخابات هي أحد مواسم التنافس بين العروش، مع سعي كل مرشح لكسب أصوات عرشه والتحالف مع عروش أخرى، تحديداً تلك التي لم يتقدم منها أحد لخوض المنافسة الانتخابية، أو تضمّ القائمة مرشحين ينتمون إلى عروش مختلفة لحصد أصوات أكبر قدر ممكن من الناخبين". ويشير إلى أن "النجاح في الانتخاب يُعتبَر انتصاراً للعرش، وأن وصول ابن العرش إلى مؤسسات صنع القرار يتيح لهم فرصاً للحصول على مكاسب أكبر، في إطار البرامج التنموية التي تخصصها الدولة للمناطق الريفية تحديداً. والملاحظ انتقال الصراع إلى داخل العروش ذاتها، وبالتالي بات هناك تنافس بين العائلات التي كانت في السابق تتكتل داخل عرشها في مواجهة العروش الأخرى".

وعلى الرغم من مرور ثلاثة عقود من التجربة التعددية السياسية في الجزائر، وتواجد عدد كبير من الأحزاب السياسية، إلا أن هذه الأحزاب لم تنجح في تحقيق اختراقات كبرى داخل النسيج العشائري، ولا القفز عليه كمحدد مجتمعي مهم في المناسبات الانتخابية. كما أن نمو أدوات الممارسة الديمقراطية في الجزائر، لم يلغِ بالكامل دور العشيرة في الانتخابات، بسبب ارتباط الولاء بين الفرد والعشيرة في بعض مدن البلاد كتبسة وخنشلة وأم البواقي وسوق أهراس شرقي الجزائر، والمسيلة والجلفة، في وسطها. في المقابل، يخفت العامل العشائري في المدن والحواضر الكبرى كالعاصمة ووهران وسطيف وقسنطينة وغيرها. وهي حواضر قد يعوّض فيها عامل العلاقات العائلية والمناطقية العامل العشائري كمحدد انتخابي.

في السياق، يوضح أستاذ العلوم السياسية عبد المالك ناصري في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "الولاء للقبيلة أو العشيرة أو العرش، لا يزال قائماً كحقيقة سياسية ومجتمعية في بعض المناطق الجزائرية، في علاقة مع المشاركة الانتخابية والسياسية أيضاً. وتؤدي العشيرة أو العروشية، دوراً سياسياً في تحديد بعض معالم التشكيلات السياسية التي تحظى بالإجماع". ويشير إلى أنه "على الرغم من نمو الآليات الديمقراطية، إلا أن التأثير العشائري على خيارات نواب البرلمان والمجالس المحلية يبدو واضحاً، خصوصاً في عدد من الولايات الداخلية. بالتالي، إن التحديث السياسي في الميكانيزمات التي تدير الانتخابات لم يغير في الكثير من القرارات، التي لا تزال تُتخذ من خلال الاحتكام لقرار المجموعة أو العرش، الذي يرفع من شأن مرشح على حساب آخر".

ويؤكد أن "بعض الأحزاب السياسية لا تزال تفكر داخل أطر اجتماعية في تقديم مرشحيها وفي الحملة الانتخابية من أجل تحقيق مكسب سياسي، خصوصاً أن العصبية القبلية، أو التضامن في حدود علاقات القرابة والعشيرة، أحد الدوافع في المشاركة السياسية وتحديد الاختيارات في الانتخابات النيابية والمحلية بشكل خاص". ويعتبر ناصري أنه "على الرغم من مواكبة المكونات السياسية للتحديات والحداثة، بفعل نشوء جيل جديد من القيادات المحلية من الشباب المتشبع بوسائل التواصل الاجتماعي، الذي لا يقبل فرض قرارات معينة، إلا أن ذهنية الانتماء القبلي والحزبية القبلية يتم استغلالها لتحقيق أغراض شخصية، تحديداً في المواعيد السياسية الكبرى". ويشير إلى أن "العامل العشائري سيبرز أكثر في انتخابات المجالس البلدية".

ويبرز في هذا الإطار تساؤل عن الآليات التي يمكن أن تتحكم عبرها العشائرية في الانتخابات في الجزائر، في المناطق التي ما زالت الارتباطات القبلية بارزة فيها، خصوصاً في ظل وجود أجيال جديدة، تبدو ظاهرياً منفلتة من قيود المؤسسات الاجتماعية، وأكثر ميلاً إلى حرية الاختيارات السياسية الفردية. كما أن تمدد هيمنة الدولة ظاهر على النسيج المجتمعي مع تراجع الدور الاجتماعي للقبيلة والأعيان في المناطق الداخلية، وارتفاع مستوى التعلم لدى النخب الجديدة، ووجود أحزاب سياسية وكوادر وقيادات محلية، يفترض أن تكون تجاوزت العامل العشائري في الممارسة السياسية والانتخابية. لكن الواقع يخالف ذلك تماماً، إذ لا تصمد الاختيارات الفردية أمام رغبة العشيرة، بسبب سيرورة اجتماعية تجعل من العشيرة الإطار الذي يحتمي به الأفراد ويحققون عبره بعض المصالح والحاجيات، بما فيها التضامن الوظيفي والاجتماعي. ويبرز ذلك من خلال عودة عدد كبير من الكوادر الجامعية إلى حواضنها الاجتماعية ومناطقها الأصلية للترشح فيها، بدلاً من الترشح في مناطق إقامتها الحالية.


لم تنجح الأحزاب في خرق البنيان الاجتماعي للعشائر

ومن هؤلاء، المحلل رضوان بوهيدل، الذي يقيم في العاصمة، لكنه فضّل الترشح في ولايته الأصلية، في باتنة، شرقي الجزائر، وكذلك رئيس "المجلس الوطني للصحافيين" رياض بوخدشة الذي يعمل ويقيم في العاصمة، لكنه عاد للترشح في ولايته الأصلية ميلة، شرقي البلاد، بسبب اعتبارات الاستقواء بالحاضنة.

وتعتقد الباحثة في علم الاجتماع السياسي فهيمة ضيف، أن هناك آليات تجعل من القبيلة فاعلاً أساسياً في الانتخابات، لكونها توفر ما يمكن وصفه "رأس المال الاجتماعي". وترى في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أن "شبكة العلاقات العشائرية تحضُر وتخفُت حسب آلية مصلحية، يستثمرها المرشحون حسب النسق السياسي القائم، وأيضاً من خلال الظروف الاجتماعية المحيطة". وتشرح أنه "كملاحظة أولى يمكن الالتفات إلى أن بعض الكوادر ممّن انتقلوا للعمل والإقامة في ولايات كبرى كالعاصمة الجزائرية، لكن مشاركتهم السياسية في الانتخابات البرلمانية الحالية تمت في مسقط رأسهم، أي في الأماكن التي ولدوا فيها أو مكان تجمعهم العشائري. كما أن عشرات المرشحين تنقلوا ظرفياً للترشح باسم أحزاب أو قوائم حرة في مدنهم الأصلية. وهذا يؤكد وجود ولاء عشائري يتم وفق شبكة علاقات مصلحية".

وتوضح أن "هناك ملاحظة ثانية برزت في الترشيحات لانتخابات 12 يونيو، وهي أن الولاءات العشائرية في الجزائر تسببت في مزيد من الانشقاقات الحزبية وبروز القوائم الحرة التي تمثل القبيلة، من دون أن تتضح صورتها التقليدية حتى، لكنها برزت من خلال الكم الهائل من تلك القوائم التي بنت ترشحها على أساس القرب العشائري والعلاقات العائلية". وتقول ضيف إن "لهذا الوضع تداعيات سلبية، لأن استدعاء العشائرية يكون على حساب قيم المواطنة. وهذا ما يمكن أن يؤثر على الديمقراطية. وبدلاً من أن يصبح الصراع أو التجاذب السياسي بين أفكار وأيديولوجيات ومشاريع مجتمعية، أصبح الصراع بين الحي والعشيرة. وفي النهاية، فإن الفائز في الانتخابات بفضل هذه النزعة، يسعى إلى رد الجميل لحاضنته الشعبية، في إطار ضيق، ما يضرّ بالصالح العام، وللأسف هذه الثقافة هي الموجِّه للسلوك السياسي والانتخابي في بعض المناطق".