أعاد تشكيل حركة "طالبان" للحكومة الأفغانية الأخيرة توجيه الأنظار إلى دور الجامعة الحقانية (أو دار العلوم الحقانية)، وهي أكبر المدارس الدينية في باكستان، في مسار الحركة وصولاً إلى سيطرتها على أفغانستان، بعد انسحاب القوات الأجنبية في أغسطس/ آب الماضي. وشكّل خرّيجو وأعضاء الجامعة الحقانية جزءاً مهماً من حكومة "طالبان"، مع انتساب العديد من الوزراء والمسؤولين على مختلف المستويات الأمنية والسياسية إليها. ويبرز من هؤلاء وزير التعليم العالي المولوي عبد الباقي حقاني، ووزير الشؤون الدينية والأوقاف المولوي نور محمد ثاقب، المعروف في أوساط "طالبان" بـ"شيخ الحركة"، ووزير العدل عبد الحكيم شرعي، ووزير الدعوة والإرشاد الشيخ خالد، ووزير الاتصالات مولوي نجيب الله حقاني، ووزير شؤون اللاجئين خليل الرحمن حقاني.
وُصفت حكومة "طالبان" بأنها حكومة شبكة حقاني
وعلى الرغم من تخرّج قيادات عديدة في "طالبان" الأفغانية من هذه الجامعة الباكستانية، إلا أن مجريات الأحداث الأخيرة في أفغانستان كشفت عن أن "طالبان" بدأت تتصرف في الكثير من الملفات بحرية كاملة، بعيداً عن الانتماءات الفكرية والعملية للمدرسة الباكستانية. وهو ما فسّره رئيس الجامعة المولوي حامد الحق حقاني، حفيد مؤسس الجامعة مولانا عبد الحق، في حوار له مع تلفزيون "جيو" المحلي الباكستاني، في 19 سبتمبر/ أيلول الماضي، بقوله إن "معظم قيادات الحركة تخرّجوا من جامعتنا، حتى مؤسس الحركة الملا عمر تلميذها بالواسطة، فأساتذته ومعلموه تخرّجوا من جامعتنا". وأوضح "نحن لم نحث أحداً على الحرب في أفغانستان ولكن الطلاب أنفسهم كانوا يشاركون في القتال أيام الغزو السوفييتي (1979 ـ 1989)"، مشدّداً على أن "دور المدرسة الريادي في مجال نشر العلوم الدينية، جعلها تحظى باحترام ونفوذ واسعين في المنطقة بأسرها وليس في باكستان فحسب".
وبعكس ما هو الحال في باكستان، أثار نفوذ الجامعة في أوساط "طالبان"، خصوصاً ما يتعلق بتشكيل الحكومة الأخيرة، حفيظة الكثيرين في أفغانستان. واعتبر رئيس الاستخبارات الأفغانية السابق رحمت الله نبيل أن حكومة "طالبان" ليست حكومة أفغانية، بل حكومة شكلتها جامعة حقانية. وذكر أن خريجي تلك المدرسة هم المسيطرون على قيادة "طالبان" وعلى حكومة تصريف الأعمال، معتبراً ذلك أمراً مؤسفاً للغاية.
وبرأي المحلل السياسي محمد أنس باركزاي، فإنه "عندما نتحدث عن حكومة طالبان لا نتوقع غير ما نشاهده اليوم في كابول، فحركة طالبان معروفة منذ انطلاقها بأنها حركة يشكّلها أبناء المدرسة الدينية". وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد"، أنه "حتى قبل طالبان نعرف أن المدرسة الدينية الباكستانية بشكل عام، والجامعة الحقانية بشكل خاص، كان لها تأثير بالغ على الأحزاب الجهادية التي كانت تقاتل ضد الروس، وهذا الأمر ليس مهماً، لكن الأهم هو سلوك طالبان مع قضايا أفغانستان، وتعامل الوزراء مع الأمور المخوّلة لهم وليس تخرّجهم من هذه الجامعة أو تلك. وما داموا ينتمون إلى طالبان فهذا يعني أنهم من خرّيجي مدرسة دينية باكستانية في الغالب، لأن المدارس الدينية في أفغانستان جديدة، ولا تملك تاريخاً طويلاً".
لمدرسة ديوبند في الهند تأثير كبير على التوجهات المذهبية لـ"طالبان"
ولفت باركزاي إلى أنه "لم يكن دور أعضاء المدرسة الحقانية وخرّيجيها في قيادة طالبان وحكومتها عبثياً، بل كان نتيجة دور هذه المدرسة على مدى العقود الأربعة الماضية في سير أحداث أفغانستان". وذكر أنه "إبان الغزو السوفييتي وإلى جانب إيوائها أعداداً كبيرة من أبناء اللاجئين الأفغان، فقد وفّرت المدرسة عنصراً بشرياً كبيراً للأحزاب الجهادية الأفغانية، تحديداً للأحزاب الرئيسية الثلاثة التي كان يقودها أصحاب الفكر الديوبندي (مدرسة فكرية أسستها مجموعة من علماء الهند وتنسب إلى بلدة ديوبند)، وهي: الحزب الإسلامي بزعامة المولوي يونس خالص، والحركة الإسلامية بزعامة الملا محمد نبي محمدي، والحركة الإسلامية بزعامة المولوي نصر الله منصور. ومعظم أنصار هذه التنظيمات الثلاثة كانوا خرّيجي المدارس الدينية، ومنها الجامعة الحقانية".
بعد خروج القوات السوفييتية واندلاع الحرب الأهلية في أفغانستان في عام 1992 ثم سقوط كابول بيد "طالبان" في عام 1996، لم يكن لأبناء المدرسة الدينية أي دور، والتزمت الأحزاب الثلاثة الحياد. بالتالي، فإن المدرسة الدينية، سواء في باكستان أو أفغانستان، لم يكن لها دور فعّال سوى في بضع محطات من أجل تحقيق المصالحة بين الأطياف المتخاصمة، وعلى رأسها الحزب الإسلامي بزعامة قلب الدين حكمتيار والجمعية الإسلامية بزعامة الرئيس الأفغاني الأسبق برهان الدين رباني.
لكن مع ظهور حركة "طالبان" في عام 1994 في قندهار بقيادة الملا محمد عمر مجاهد، الذي كان مقاتلاً عادياً في حزب الشيخ يونس خالص، عادت المدرسة الدينية عموماً والجامعة الحقانية على وجه الخصوص إلى الواجهة مجدداً. وكان جميع قادة وأنصار الملا عمر من طلاب المدرسة الدينية، وهو ما دفعهم إلى اختيار اسم "طالبان" (التي تعني الطلاب في اللغة البشتونية) اسماً لحركتهم.
وفي حين أدت المدرسة الدينية الباكستانية عموماً دوراً مهماً في توفير العنصر البشري للحركة، إلا أن الجامعة الحقانية تتميز بتوفير القيادة العليا لحركة "طالبان". وبعد سيطرة الحركة على بعض الولايات الجنوبية وتحرّكها صوب العاصمة في تسعينيات القرن الماضي، بدأت أعداد كبيرة من أبناء المدارس الدينية في باكستان تشارك في حرب أفغانستان، واستمر الحال حتى بعد الغزو الأميركي (2001 ـ 2021)، إلى حين سقوط كابول بيد الحركة في منتصف أغسطس الماضي. وكانت المدارس الدينية الباكستانية قد عطّلت الدراسة فيها قبل دخول القوات الأميركية إلى أفغانستان من أجل المشاركة في الحرب بين "طالبان" والأحزاب الجهادية الأخرى، إلا أنها أحجمت عن ذلك بعد الغزو، اقتداءً بسياسة الحكومة الباكستانية، علماً أن معظم عناصر "طالبان" كانوا من أبناء تلك المدارس خلال العقدين الماضيين.
شبكة حقاني
أما عن شبكة حقاني التي تشكّل الجزء الأهم من حركة "طالبان"، فمؤسسها الشيخ جلال الدين من خرّيجي الجامعة الحقانية، وأضاف اسم حقاني إلى اسمه في عام 1970 بعد تخرّجه من الجامعة. وقال حامد الحق، رئيس المدرسة، إن جلال الدين حقاني كان من طلاب الجامعة قبل الغزو السوفييتي لأفغانستان، وبعد الغزو قرر تركها وتشكيل الجبهة القتالية ضد القوات السوفييتية. ومنذ بداية الغزو السوفييتي حتى الحرب الأهلية وظهور "طالبان" كان جلال الدين حقاني قيادياً بارزاً في حزب الشيخ يونس خالص، لكن بعد ظهور "طالبان" أعلن ولاءه علناً لها وشارك في الحرب ضد القائد الجهادي السابق، وزير الدفاع في حكومة المجاهدين أحمد شاه مسعود، وعيّنته "طالبان" وزيراً للحدود. بعد سقوط حكومة الحركة في عام 2001 بات جلال الدين حقاني موالياً لها، مع تشكيل كيان خاص له في ثلاث ولايات جنوبية، هي: خوست وبكتيا وبكتيكا، حيث تمتع بنفوذ كبير فيها. وسُميّ ذلك الكيان بشبكة حقاني التي كانت لها علاقات قوية بالمجاهدين العرب وبتنظيم "القاعدة" مقارنة بـ"طالبان" نفسها وبالأحزاب الجهادية الأخرى. وتوفي جلال الدين حقاني في سبتمبر 2018، فعُيّن ابنه سراج الدين حقاني رئيساً للشبكة، بالإضافة إلى كونه نائب زعيم "طالبان" الملا هيبت الله أخوند زاده، ويشغل حالياً منصب وزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال. لم يدرس حقاني الابن في جامعة حقانية ولكنه يحمل اسم حقاني لأن والده درس هناك.
تاريخ الجامعة
تعتبر الجامعة الحقانية الواقعة في منطقة أكوره ختك على امتداد الطريق الرئيسي بين شمالي غرب باكستان وبين العاصمة إسلام أباد في إقليم خيبربختونخوا، إحدى أهم المدارس الدينية في باكستان، وفرعاً مهماً ذا نفوذ للفكر الديوبندي. وتمّ تأسيس الجامعة في عام 1947، في السنة نفسها التي انفصلت فيها باكستان عن الهند، على يد الشيخ مولانا عبد الحق، خرّيج جامعة ديوبند في عام 1935، وهو من أبناء قرية أكوره ختك. وفي لحظة انفصال باكستان عن الهند، كان عبد الحق في إجازة، فلم يعد إلى مدرسة ديوبند الأم بل أسس مدرسة صغيرة في قريته سماها الجامعة الحقانية. وتطورت المدرسة إلى أن أصبحت أكبر مدرسة دينية في باكستان وأفغانستان، وذات تأثير كبير في مجرى الأحداث في البلدين، ويدرس فيها سنوياً بين أربعة وخمسة آلاف طالب وطالبة، حسبما ذكر رئيس الجامعة المولوي حامد الحق حقاني.
ينتمي الصف الأول من قيادات "طالبان" إلى الجامعة الحقانية
وكانت المدرسة الدينية أساساً قد تأسست في شبه القارة الهندية (تضمّ بنغلادش، بوتان، الأراضي البريطانية في المحيط الهندي، الهند، مالديف، نيبال، باكستان وسريلانكا)، على يد بعض علماء الدين، لمواجهة التعليم الغربي الذي حاول المستعمرون البريطانيون ترويجه. وكانت مدرسة ديوبند من أهم تلك المدارس، وتمتعت بنفوذ كبير في المنطقة منشئة فروعاً عدة خارجها، وتستلهم منها آلاف المدارس الدينية في باكستان والهند وبنغلادش وأفغانستان. مع العلم أنه عند تأسيس باكستان كان عدد المدارس الدينية فيها 300 مدرسة فقط، بينما تجاوز عددها حالياً الآلاف. وبحسب بعض التقديرات، فإن عدد المدارس الدينية تجاوز الـ25 ألف مدرسة دينية، تتوزع بين أربع مذاهب إسلامية مختلفة، وهي المذهب السلفي، وتُسمّى مدارسه بمدارس أهل الحديث، والمذهب الديوبندي، نسبة إلى مدرسة ديوبند التي بلغ عددها 21452 مدرسة وفقاً لـ"وفاق المدارس العربية" (هيئة علمية خاصة بالفكر الديوبندي)، وتنتمي إليها الجامعة الحقانية، إضافة إلى المذهب البريلوي (المتصوفون)، والمذهب الشيعي.
أما المدرسة الدينية في أفغانستان فكانت تتبع لمدرسة ديوبند قبل الغزو السوفييتي لأفغانستان، بينما كان عدد قليل من العلماء يدرسون في باكستان، لكن بعد الغزو السوفييتي تحوّل الاهتمام إلى المدرسة الباكستانية التي كانت تتبع الفكر الديوبندي، خصوصاً الجامعة الحقانية، لقربها من الحدود، ولأن القائمين عليها من أبناء العرقية البشتونية.