دخل الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين أطواراً متقدمة في تطبيق سياسات نظام "أبرتهايد" الذي اعتُمد في جنوب أفريقيا سابقاً. فمحاولة جعل الأراضي الفلسطينية كانتونات وبانتوستانات (أرض الناطقين بلغة البانتو في جنوب أفريقيا) لم تعد خفية، في سياقات تهويد الأرض والتخلص من أهلها الأصليين، وكذلك مساعيه المحمومة للتمدد والتحول إلى جزء من نسيج المنطقة العربية، من الخليج إلى المحيط. جائحة كورونا، وما يرافقها، في عناوين سياسية وإعلامية أوروبية، تفضح سياسة "لقاح الفصل العنصري"، وتعيد مصطلح "أبرتهايد" إلى الواجهة لوصف سياسات الاحتلال ضد الشعب الفلسطيني عموماً. فثمة قوى وأحزاب ومنظمات حقوقية، ومشرعون وأكاديميون، يستدعون في نقاشاتهم المصطلح على أساس العقل والأرقام والوقائع، واستناداً إلى المواثيق الدولية، وخصوصاً استحضار اتفاقية جنيف في بندها الـ55 عن مسؤولية القوة القائمة بالاحتلال تجاه الشعب المُحتل.
المسألة ليست بسطحية ذباب التطبيع العربي، تبريراً ساذجاً لهرولة البعض إلى شرعنة التحالف مع الاحتلال، من زاوية أن مطلب تطبيق المواثيق الدولية على المناطق المحتلة يعد "تطبيعاً فلسطينياً". فحق الشعب المحتل الوصول إلى كافة الاحتياجات، بما في ذلك اللقاح، يقوم على القانون الدولي، في طريق إنهاء أصعب وأفدح استعمار قام على التطهير العرقي والمذابح وإحلال آخرين مكان الشعب الأصلي.
وما مارسته جوهانسبرغ من تدخلات دموية في محيطها الأفريقي، لإضعاف حركة مقاومة "أبرتهايد"، هو ما يمارسه الاحتلال في المنطقة العربية. فعلى الرغم من مشهد تغافل البعض العربي عن مسؤولياته أمام القانون الدولي بمنح شرعية زائفة للمستوطنات، كأحد أوضح تعبيرات "أبرتهايد" التي لا يُوفَر فيها بيت فلسطيني من الهدم، تتوسع نقاشات أوروبية، وأميركية إلى حد ما، لمواجهة نظام الفصل العنصري الصهيوني، غير خائفة من جهود ترهيب وتجريم أصحابها باسم "معاداة السامية".
في كل الأحوال، فإن دولة "أبرتهايد" ليست وليدة عام الجائحة، فهي ممارسة يومية، ومشرعة بقوانين عنصرية، من بينها "قانون القومية"، وغيره، استهدافاً لعرب الداخل. وهي منتهجة منذ عام 1948، باختراع تقسيم الفلسطينيين على أسس صهيونية واهية (شركس، مسلمين، مسيحيين، ودروز وبدو...).
إذاً، ما يجري في سياق تبنٍ صارخ ومتسارع لأبشع ممارسات جوهانسبرغ سابقاً، هو تسلسل طبيعي لتحول الاستعمار الصهيوني، ومن أخطره ما شهدته وتشهده مدن عرب الداخل في غض طرف عن تفشي العنف والجريمة، ومحاولة شق الصفوف وإشغال الفلسطينيين والعرب للمضي نحو ترسيخ "أبرتهايد" وتطبيعه محلياً وعربياً.
أمام انفضاح نظام الفصل العنصري الإسرائيلي، الذي استدعى، مثلاً، في الدنمارك جبهة منددة بزيارة رئيسة وزراء يسار الوسط، ميتا فريدركسن، إلى تل أبيب، وبـ"نهب اللقاح" من الفلسطينيين، ووصفه بـ"لقاح أبرتهايد". كما ذهب مشرعون ووسائل إعلام، ثمة أسئلة حول أدوار عربية وفلسطينية غائبة.
الحالة العربية الرسمية تشهد تردّيا أسوأ من ذلك الذي عاشته دول محيط دولة جنوب أفريقيا العنصرية سابقاً. فإقصاء مصر، مثلاً، عن دورها الريادي العربي، في سياق مكلف للارتداد عن إرادة الشعوب، يخلق للأسف حالة رسمية أشبه بالتحلل من القضية الفلسطينية، مع ملاحظة لهث بعض الدول نحو التطبيع باعتباره مدخلاً لتثبيت مشروعية الحكم. ووسط ذلك، يحضر سؤال عن مسؤولية القوى والأحزاب العربية، للوقوف أقله بوجه استهداف من ينشط في مقاومة التطبيع وفي "حركة المقاطعة". ولعل الحالة الفلسطينية تحتاج أكثر مما مضى للإقلاع عن الخصومة تحت سقف اتفاق أوسلو (1993)، ولأن تمارس أدوارها كحركة تحرر وطني أمام المتغيرات، على الساحتين العربية والعالمية، ووقف منح الاحتلال صك براءة بالتمسك باتفاقيات أحرقتها التجارب المكلفة غالياً.