هل ينتفض اليمنيون من جديد؟

هل ينتفض اليمنيون من جديد؟

22 فبراير 2021
+ الخط -

مرّت الذكرى العاشرة لثورة 11 فبراير (2011) في اليمن، في وضع هو الأسوأ على اليمنيين منذ ثورة الجمهورية في 26 سبتمبر/ أيلول 1962، حيث يمر البلد اليوم بمرحلةٍ حرجةٍ على المستويات كافة. ولكنها مرحلة، يمكن القول إنها تأسيسية قابلة لإمكانية التغيير لإعادة تشكيل السردية اليمنية كليا وفق أسسٍ متينة. كما أنها تمثل مناخا ملائما لبروز مدّ ثوري جديد، لن يكون من المبالغة القول إنه أضحى اليوم في تنامٍ متصاعد داخل البنى اليمنية الاجتماعية والثقافية، بوصفه حالة رفضٍ تتنامى بفعل تعاظم الاستلاب الذي تمارسه جماعة الحوثي الانقلابية ضد اليمنيين، وحيال مشهد الصراع القائم في البلد.
يبشّر الرفض الشعبي المتنامي ضد الحوثيين، باعتبارهم أساس الأزمة القائمة في البلد؛ باندلاع ثورة جديدة تفسح المجال لاستكمال أهداف ثورة فبراير التي مثلت فاتحةً لتصويب مسار اليمن الحضاري، بعد عقود من التموضع الخاطئ داخل التاريخ. كما أن عجز جماعة الحوثي، بعد ست سنوات من انقلابها على الدولة الشرعية، عن إنجاز أي تعاقد سياسي مع المجتمع، يمنح وجودها نوعا من المشروعية؛ ما يعد تأكيدا لعجزها عن تجاوز السياق التاريخي الخلاق الذي أفرزته ثورة فبراير، والذي لا يزال مهيئا لانبثاق أشكال ثورية عديدة، وإحداث انزياحات كبيرة داخل معادلة الصراع. وبات من الواجب على الشعب اليمني اليوم استغلال ذلك بشكل أمثل، للنهوض مجدّدا بمشروع التغيير، وتلافي أخطاء ثورة فبراير.
لم يكن ما بدا فشلا لثورة فبراير في اليمن إلا أحد تداعيات انهيار نظام الحكم السابق الذي تزعمه علي عبدالله صالح ثلاثة عقود، والذي رهن بقاءه في السلطة بمراكمة المشكلات داخل البلد، وإبقائها ضمن نطاق سيطرته، بحيث تغدو أي عملية شعبية لإسقاط ذلك النظام مغامرة خطيرة ستجلب الخراب للبلد بانفراط عقد تلك المشكلات، وهو ما حدث عقب ثورة 11 فبراير بفترة وجيزة، متمثلا في تمدّد جماعة الحوثي، وتنامي حراكها إلى حد الانقلاب على حكومة الوفاق، والسيطرة على العاصمة صنعاء في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، في حين كانت الجماعة، إلى ما قبل سقوط النظام السابق، لا تزال مجرد مشكلة محصورة في محافظة صعدة (شمال اليمن)، بيد أن نظام صالح أراد حدوث ذلك السيناريو بالتحديد لهدم ثورة الشعب.

فشلت حكومة الوفاق التي أفرزتها الثورة في التعاطي مع الثورة المضادّة للحوثيين، لضعفها وانقسامها وفشلها في إعادة هيكلة الجيش اليمني

ما قامت به ثورة فبراير تحديدا هو تعرية فكرة الدولة في اليمن التي ترأسها صالح، إذ تكشفت هشاشة الدولة كمنظومة، عقب الثورة، على نحو غير مسبوق. وبدا ذلك جليا خلال سقوطها السهل بيد جماعة الحوثي نهاية العام 2014. قبل ذلك، كانت الدولة اليمنية بوصفها منظومة مؤسساتية مفرغة من أي بناء حقيقي، وغاصّة بالفساد، الأمر الذي عطّل عمليات التطوير والتحديث المفترضة داخل مؤسساتها، وألحق بها هشاشة بنيوية فادحة سقطت، على إثر ذلك، أمام أول تحدّ حقيقي عقب الثورة.
فشلت حكومة الوفاق التي أفرزتها الثورة (2014 - 2012) في التعاطي مع الثورة المضادة للحوثيين، لضعفها وانقسامها وفشلها في إعادة هيكلة الجيش اليمني الذي ظل منقسم الولاءات بعد الثورة، وقد سهّل قسمٌ منه عملية إنقلاب الحوثيين على الدولة والسيطرة على العاصمة صنعاء، لينتهي بذلك الفصل السياسي الجديد، وليد ثورة فبراير، ومثل الأمر، في الأخير، إخفاقا لها.
ولكن القول بانتهاء ثورة فبراير بناء على ذلك سيكون متسرعًا، لأسباب كثيرة، لعل أبرزها استمرار المعركة ضد جماعة الحوثي الانقلابية، وفشل الجماعة في اكتساب مشروعية، سواء أمام المجتمع الدولي أو أمام الشعب اليمني، وعدم استتباب سيطرتها داخل اليمن، الأمر الذي يضع وجودها في محل تهديد دائم، ويجعل من احتمال تقويضها عبر انتفاضة جماهيرية أمرا وارد الحدوث.
حاليا، تستمد الجماعة مشروعية وجودها من ادّعائها الدفاع عن الوطن أمام التدخل الخارجي، بيد أن هذه الأسطوانة لا تفلح سوى أمام الفئات الاجتماعية المؤيدة لها. غير ذلك، تبقى الجماعة مكشوفةً كليا أمام الشعب، وفاقدة عناصر التأييد الشعبي، الأمر الذي يفصلها عن القطاع الأكبر من المجتمع، ويجعلها وحيدة أمام مصير مجهول ينتظرها.

عجز السلطات الانقلابية الحوثية عن فرض إرادتها كليا على مقاليد الحكم في اليمن، منذ تنفيذ انقلابها قبل ستة أعوام، يمنح الشعب فرصةً جديدة لتقويضها

في العموم، لا يزال الشعب اليمني يملك الفرصة لاستكمال ثورة فبراير، فالمعركة الثورية، على الرغم من تشعبها عبر معادلة الصراع التي تتضمن أطرافا إقليمية إلى جانب الأطراف المحلية؛ لم تنته بعد. كما أن عجز السلطات الانقلابية الحوثية عن فرض إرادتها كليا على مقاليد الحكم في اليمن، منذ تنفيذ انقلابها قبل ستة أعوام، يمنح الشعب فرصةً جديدة لتقويضها، خصوصا في ظل عجز الجماعة عن توفير رواتب موظفي الدولة في مناطق سيطرتها، وفشلها في تقديم نموذج محدّد للحكم، فهي لا تزال مجرد عصابة، حتى في نظر أتباعها، ولم تفلح في تقديم ذاتها دولة حاكمة. إنها تعيش حاليا أزمة هوية سياسية وسلطوية، تضعفها أمام الشعب. كما أن احتماءها خلف الهوية القتالية، وهو الفعل الذي تستميت لإثباته، يجعلها سلطة حربٍ لا سلطة حكم، ولا يمكن لها، في المجمل، أن تنجح في التحول إلى نموذج دولة بأي حال، ذلك أنها، وبوصفها مشروع فوضى؛ النقيض الموضوعي لفكرة الدولة.
تحكم جماعة الحوثي اليوم مساحة كبيرة من اليمن كسلطة استبداد، لكنها عاجزة عن تَمثُل دور الدولة، ففي حين تواصل سلب الشعب بشتى الطرق، وتحصيل الإيرادات لصالحها، فإنها تتجاهل واجباتها تجاهه، بصفتها سلطة أمر واقع، كما أنها تمتنع عن إنجاز أي مشاريع خدمية لصالح الشعب، الأمر الذي يفقدها أدنى أشكال المشروعية، ويفاقم غضب الناس تجاهها، ويمثل هذا الأمر أحد أكبر مُحرّضات الثورة ضد الجماعة. وقد بلغ صبر اليمنيين تجاه هذا الوضع حدّه الأقصى، وأضحوا في حالة استعداد للتمرّد ضد سلطة الحوثيين، وبأقل شرارة نضال بات اليوم ممكنا إشعال ثورة كبرى، وهو الأمر الذي بات يشكل أكثر مخاوف الجماعة أخيرا، لذا تعمد، بين فترة وأخرى، إلى تضييق الخناق على المدنيين في مناطق سيطرتها، وشن حملاتٍ تستهدف الحريات تحت يافطاتٍ أخلاقية، غرضها في ذلك إرهاب المجتمع، وبث مزيد من الرعب في أوساطه، تحسبا لحدوث أي تمرّد ضد سلطاتها من داخل الشعب.
ما لا تدركه الجماعة أن مضاعفة القمع ضد المجتمع فعل يؤجّج نزعات التمرّد ضدها أكثر، كما أن استعداءها اليمنيين على ذلك النحو أمر سيجلب عليها الوبال في الأخير. على أن الجماعة تعكس، من خلال محاولة إحكام قبضتها الأمنية على الشعب، ذعرها ومخاوفها المتعاظمة من الجماهير. ويمكن القول إن اليمنيين يمرّون بحالة متقدمة من الاستعداد الثوري، بفعل إمعان الجماعة في استهداف حياتهم ومواصلة إذلالهم وتضييق الخناق عليهم بشتى الطرق، لكنهم يفتقرون لقيادة تدفعهم إلى المبادرة في ثورة جديدة. يملك اليمنيون حاليا الدوافع اللازمة لإتمام ثورة فبراير، ذلك أن أسباب الثورة لا تزال قائمة، إلى جانب تضاعف الحاجة إلى التغيير في ظل التدهور المتواصل للأوضاع المعيشية في البلد، نتيجة الحرب التي أشعلها الحوثيون بدءا.

أحدث البعث القومي لليمنيين، أخيرا، ارتدادات سلبية على الحوثيين، من خلال عمله على تثقيف الشعب للتبصر بشأن هويته، واشتغاله على إيقاظ الوعي الجمعي للناس

من ناحية أخرى، تمارس جماعة الحوثي عنصرية سلالية ضد اليمنيين، الأمر الذي يضاعف غضب الشعب، حيث تفرض الهوية "الهاشمية" التي تمثلها، والمتصلة بنسب النبي محمد على الناس، عبر ادّعائها الحق المقدس في ممارسة الحكم. استدعى ذلك الأمر ردّة فعل مضادة لليمنيين، تمثلت في النزعة القومية التي برزت تحت مسمى "الأقيال"، بامتدادٍ يحيل إلى العهد الحضاري الحِميَري القديم والزاهر، واكتسبت الفكرة زخما واسعا بوصفها مرتكزا يجسّد أصالة الذات الجمعية لليمنيين في مواجهة الهوية "الهاشمية" التي يحاول الحوثيون فرضها على اليمنيين الذين ينبذونها، ويرون أنها هوية طارئة على بلدهم، ليصبح الصراع، عند هذا المستوى، بين اليمنيين و"الهاشمية" ممثلة بجماعة الحوثي، صراعا ثقافيا هوياتيا بطابع سياسي، الأمر الذي يجعل من فكرة اندلاع ثورة ضد الحوثيين أمرا حتمي الحدوث، مهما طال الزمن، لتنافي مشروع الجماعة كليا مع هوية اليمنيين.
أحدث البعث القومي لليمنيين، أخيرا، ارتدادات سلبية على الحوثيين، من خلال عمله على تثقيف الشعب للتبصر بشأن هويته، واشتغاله على إيقاظ الوعي الجمعي للناس تجاه الخطورة الثقافية والسياسية التي تمثلها جماعة الحوثي، وهو الأمر الذي يضاعف التيار المناهض للجماعة داخل المجتمع، وبات يحرّض الجماهير باتجاه فعل ثوري قادم ضد الجماعة.
يعد الشعب اليمني حاليا الأكثر استعدادا للثورة أكثر من بقية شعوب بلدان الربيع الأخرى التي شهدت ثورات مضادّة، لثلاثة أسباب رئيسية. الأول: العنصرية التي يمارسها قادة الثورة المضادّة في اليمن بادعاء الأحقية في الحكم بمزاعم التفويض الإلهي. والشعب اليمني قد يتعايش مع الاستبداد اضطرارا، لكنه لن يقبل بتاتا بالعنصرية والاستلاب على النحو الذي تمارسه جماعة الحوثي. الثاني، أن الحوثيين امتداد للنظام الإمامي البائد الذي حكم اليمن أكثر من ألف عام قبل تقويضه عبر ثورة 26 سبتمبر في 1962، والتي أقرّت النظام الجمهوري أول مرة في اليمن، وهو الأمر الذي يثير حفيظة اليمنيين على نحو خاص، الذين عانى أجدادهم طويلا من النظام الإمامي. الثالث، هشاشة سلطة الانقلاب الحوثية التي عجزت عن لعب دور الدولة وملء الفراغ بعد تقويضها، إلى جانب افتقارها مقومات القوة اللازمة لإخضاع الشعب لهويتها الخاصة، لكونها تمثيلا عن أقلية اجتماعية داخل الشعب، ومن العسير عليها، بوصفها أقلية عنصرية، النجاح في فرض هويتها الخاصة على الشعب اليمني، مهما بلغت القوة العسكرية التي تملكها، الأمر الذي يضاعف الفرصة أمام اليمنيين للثورة.
كشفت ثورة فبراير مكامن الضعف التاريخية في البنى اليمنية السياسية والاجتماعية والثقافية، وبات اليمنيون يدركون اليوم جيدا من هو عدوهم، ويعلمون بالتالي ما الذي يجب القيام به لإصلاح مسار البلد. كما يمكن للوعي السياسي الذي اكتسبه الناس، خلال ثورة فبراير، أن يساهم في بعث انتفاضة جديدة ضد الإماميين الجدد، على نحو أجدى وأكثر فاعلية من أي ثورة سابقة.

مبارك الباشا
مبارك الباشا
كاتب وصحافي يمني