نعم .. إنها "السموم الزّعاف"

نعم .. إنها "السموم الزّعاف"

01 فبراير 2021

(عمران يونس)

+ الخط -

رئيس مصر، عبد الفتاح السيسي، أقلّ كعباً بكثير، في درايته باللغة العربية، من رئيس تونس، قيس سعيد. والأخير، لشحّ ما يُنجز، ومن فرط البؤس في أدائه، نكاد، نحن المعلقون الذين ندسّ أنوفنا في غير أمر، لا نلحظ منه غير فصاحته بالعربية. مقام الإتيان على هذه البديهية أن رئاسة الجمهورية التونسية ذكرت، في خبرٍ طيّرته عن مكالمةٍ هاتفيةٍ أدّاها السيسي مع سعيد، وأعرب فيها عن "تضامنه الكامل مع الشعب التونسي إثر المحاولة الفاشلة لتسميم رئيس الدولة"، ذكرت أن المكالمة كانت "فرصةً للحديث عن تسميم العقول والأفكار، لأن السموم الزّعاف هي التي تستهدف الشعوب والدول قبل أن تستهدف الأشخاص والقيادات". لم يأت تصريح المتحدّث باسم الرئاسة المصرية في القاهرة على هذه "الفرصة"، والغالب أن السبب أن السيسي ربما استشكلت عليه قصة "السموم الزّعاف"، فآثر المتحدّث باسمه إهمالَها، والإتيان على ما تركه البيان التونسي، إذ بعد الإفادة أن السيسي اطمأن على سلامة "أخيه" الرئيس التونسي، قال إنه جرى بينهما "التوافق على مواصلة التشاور والتنسيق المكثف إزاء مختلف القضايا العربية والإقليمية".
كانت الرئاسة التونسية قد أخبرت أن مظروفاً من غير اسم مرسلِه عليه وصل إليها، ثم أصيبت مديرة الديوان الرئاسي، عندما فتحته ووجدته خالياً، بإغماءٍ وصداعٍ وفقدانٍ كبيرٍ لحاسّة البصر. ولكنها (الرئاسة) لم تخبر بشيء عن "السموم الزّعاف" التي جيء عليها في المكالمة مع عبد الفتاح السيسي، والمعاجم توضح أن هذه السموم سريعة القتل، تُجهز على من يُصاب بها في حينه. ولمّا كان الرئيسان قد تحدّثا عن تسميم العقول والأفكار، وعن "شعوبٍ ودول" يستهدفها هذا الصنف الفتاك من السموم، فماذا بالضبط قال اثناهما عن هذا كله؟ بماذا أفضى السيسي، أم أنه اكتفى بالسماع عن هذا الأمر من سعيد؟ ولمّا صمت البيان التونسي، وأوجز إلى حد الإخلال ببيان مغازي الخبر ومضامينه، فإن لواحدنا أن يجتهد، فيُعلِمَ عن تسميمٍ يجري للعقول والأفكار، بين ظهرانينا نحن العرب، وعمّن يفعلها ويعمل على الإجهاز على دول وشعوب بغير وسيلةٍ يجوز حسبانها في منزلة السموم الزّعاف.
ولمّا كنا نطلّ، هذه الأيام، على عشر سنوات مضت على انتفاضاتٍ نادت فيها حناجر في شوارع وميادين عربية بالحرية واستقلال الإرادة والديمقراطية الحقة والعدالة وكرامة الإنسان، فإن سموماً زعافاً كثيرة ردّت بها أنظمة الاستبداد والفساد، وقوى مضادّة فيها، على الذي أرادته انتفاضات الربيع الذي كان واعداً بحق، وطَموحاً بحق. أسوأ هذه السموم ترذيل الديمقراطية وقيم الحرية، كما الذي زاولته أنظمةٌ تحكم في اليمن ومصر وسورية والسودان والعراق وغيرها، من قبيل مواسم انتخاباتٍ واستفتاءاتٍ توالت، بلا محتوى ديمقراطي، وبلا مضمونٍ يأخذ الشعوب إلى تلبية أشواقها نحو التقدّم والإصلاح السياسي، وذلكم بعد انقلابٍ عسكري، شديد البوليسية، في مصر. وكذا في أثناء حكمٍ لا يعرف غير القتل، بالبراميل وغاز السارين والصواريخ و...، في سورية، غير أنه يُجري انتخاباتٍ برلمانيةً وأخرى رئاسية، دورياً وبانتظام، ومن دون أن يستحي، فيما شعب هذا البلد موزعٌ لاجئين ونازحين ومهاجرين مرغمين في العيش تحت سلطة بشار الأسد وزوجته، وكان قد نهض بانتفاضةٍ فدائيةٍ، شجاعة، كابد فيها ولمّا ينتصر بعد. وفي اليمن، حيث ساحات صنعاء وتعز وعدن وغيرها طالما اعتصم فيها الناس، وصاحوا بإسقاط نظام الفساد والتجويع، غير أنهم آلوا، تالياً، إلى الذي نرى، الكوليرا وتشكيل انفصالي وحوثيين وشرعيةٍ مهترئة. وفي تونس، حيث قيس سعيد رئيساً فصيح اللسان، يكاد الشعب، وهو يقف عند تخوم الإحباط المهول واليأس الفادح، يسأل بشأن الذين يحكمون ويرسمون، ويُنتخبون نواباً ويُختارون وزراء، ألا يعرفون شيئاً غير الفشل والنكايات والعبث؟
الأشد زعافاً في السموم التي تنشط في إشاعتها أنظمة الكذب والتدليس والدجل المقيمة في غير بلد عربي إعلام الردّة الذي يسوّق ثقافة الافتراء على الربيع العربي، وتطلعات ناسه التي أشهروها قبل عشر سنوات. الإعلام الأعمى عن موت أزيد من ألف سجين في زنازين سلطة الانقلاب الراهن في مصر، وعن اعتقالاتٍ لا تتوقف .. السموم الزّعاف كثيرة في الحال العربي الماثل، تستهدف بها أنظمةٌ متسلطةٌ شعوبَها، لتيأس هذه الشعوب، وتقنط، فلا ترجو صلاحاً، ولا تنظر إنقاذاً لها.. تُرى، ما مقادير المناعة فيها؟ هل تؤدّي نخب الفكر والثقافة والفنون ما يلزم من لقاحاتٍ ضد اليأس والإحباط والموات؟

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.