Skip to main content
كتاب غير عادي عن فؤاد المهندس
معن البياري

لا يوصَف، هنا، كتاب "مهندس البهجة ... فؤاد المهندس ولا وعي السينما" (دار المرايا، القاهرة، 2022)، بأنه غير عادي، لحماسٍ له كثير، ولا لتقريظٍ خاصّ له، وإنما لتمييزِه عن "العاديّ" الذائع في الكتب عن نجوم الكوميديا العرب، أن تكتفي بالتعريف بهم، وسرد سيرِهم وأعمالهم. ليس أيُّ شيءٍ من هذا من شواغل الأكاديمي المصري، الأستاذ الجامعي في كندا، وليد الخشّاب، في كتابه هذا، فهو عملٌ بحثيٌّ في التحليل الثقافي، معنيٌّ بالسياسي والاجتماعي، ويصدُر في جهدِه هذا عن رؤيةٍ نقديةٍ ومحاولة تفكيك خطاباتٍ ومُرسلاتٍ متعيّنة. وربما لهذا السبب، تلقاك، بعد أن تفرَغ من قراءة هذا الكتاب، المثير والشائق، و"المختلف" في وصفٍ مستحقّ، رماه الزميل محمد طلبة رضوان في مقالة له في "العربي الجديد"، تسأل نفسَك ما إذا كان الذي أتى به الخشّاب عن فؤاد المهندس في أفلامه ومسرحياته وأعماله الإذاعية، مُقنِعا أم لا. يستثير فيك الكتاب هذا السؤال، ثم لا تطمئن إلى أيٍّ من الإجابتيْن بالنفي أو الإيجاب، وإنْ تجدك، ربما، تتفّق تماما مع المؤلف المجتهد في وجهة نظره في موضعٍ، وربما ترى في موضعٍ آخر تعسّفا أو تزيّدا لدى الباحث الذي ظلّ حصيفا في 224 صفحة.

المقولة الأساس في "مهندس البهجة ..." أن الكوميديا مادّة جادّة، وأننا، عادةً، لا نأخُذها هكذا، وأن لأفلام فؤاد المهندس (في الستينيات والسبعينيات غالبا، قبل أن تُصبح أدوارُه ثانوية) قيمة ثقافية واجتماعية وسياسية، "رغم ما يبدو على سطحها من تهريج" (بتعبير وليد الخشّاب)، بل إنه يندُر أن تجد مثيلا للتفاعل الثقافي (مع المجتمع) لهذه الأفلام التي تضعُها قيمتُها هذه في مصافّ كلاسيكيّات الكوميديا العربية. وتاريخ هذه الكوميديا لم ينكتب بعد، بحسب المؤلف الذي يرى فؤاد المهندس "قيمة فنيّة وثقافية عربية، بوصفه مثال الكوميديا الوطنية، الجناح الفكاهي للدولة الوطنية، دولة التحرّر في مرحلة ما بعد الاستعمار". وفي موضع آخر في تحليلٍ مفصّلٍ لأفلام المهندس ومسرحياته، يكتب الخشّاب إن ما يسمّيها "لحظات التنبؤ الواعي بالمستقبل" تتعدّد في عالم فؤاد المهندس، وبالذات في أفلامه في الستينيات ومطلع السبعينيات. وهنا، لا يبدو مُقنعا تماما أنه "ربما يجوز أن نقول عن فيلم "أنت اللي قتلت بابايا" إنه كان يعبّر عن لا وعي البعض، أو يتنبأ بما هو في لا وعي البعض: توقع وفاة الزعيم الأب"، أي جمال عبد الناصر، وهو الفيلم الذي أُنجز قبيْل وفاة عبد الناصر، وعُرض بعدها بستّة أسابيع.

استُعيد فؤاد المهندس، وهو دائم الحضور، بمناسبة عيد ميلاده أول من أمس (6 سبتمبر/ أيلول)، في 1924 (أو 1927 الذي رجّحه المهندس)، وسيُستعاد بعد أيامٍ في ذكرى وفاته (16 سبتمبر). ولعلّه، صاحب هذه الكلمات، يساهم في هذه الاستعادة، بتنويهه بأهمية كتابٍ "غير عادي" عن الكوميديان البديع، البهلوان بالمعنى الشديد الذكاء الذي يتبنّاه وليد الخشّاب. وإذ أفعل هذا، لا يغيب عنّي أني صادفتُ فؤاد المهندس، في حديثٍ تلفزيونيٍّ معه، يتحدّث بغير اعتدادٍ عن أفلام له، ويستسخفها، ويقول إنه قام بها من أجل الفلوس وليعيش. ولا أدري ما كان سيقولُه الراحل لو قرأ "فرضيّة" صاحب الكتاب، "أن أفلام فؤاد المهندس التي قام ببطولتها كنجم أول، لا سيّما أفلامه مع شويكار، في الستينيات والسبعينيات، كانت جميعُها إفصاحا غير مقصودٍ عمّا يحمله لا وعي الناصرية، أو اللا وعي الجماعي للناس في المرحلة الناصرية وامتداداتها حتى ترسّخت سياسة الانفتاح على يد السادات". ولكن، من قال إن الممثل (تحديدا) هو المرجع، بالضرورة، في الوقوع على التعبيرات الثقافية والاجتماعية لمرحلةٍ ما. وهنا، في محلّه، إلى حدٍّ بعيد (ومقنعٍ على الأغلب) قول الخشّاب، بعد أن يسمّي أمثلة من أفلام المهندس، "أخطر رجل في العالم" (1967) و"شنبو في المصيدة" (1968) و"العتبة جزاز" (1969) و"سفّاح النساء (1970) و"أنت اللي قتلت بابايا" (1970)، إن "كل هذه الأعمال على خفّتها، وربما يقول البعض على سخافتها، تعدّ تلخيصا لملامح ولهزيمة النظام السياسي والاجتماعي في فترة عبد الناصر. تتمثّل تلك الملامح (السياسية والسينمائية معا) في التهريج والضحك العالي وتمجيد أجهزة الدولة الأمنية، على نحوٍ يشكّل مسخرةً في حقيقة الأمر".

قصارى القول، هي تحيّة لفنّانٍ في الفكاهة معلّم، عصيٍّ على الغياب، أحد أساتذة الكوميديا العربية، اسمُه فؤاد المهندس، وتحيّة لصاحب كتابٍ جادّ عنه، اسمُه وليد الخشّاب.