ضعف حزب الله في قوته

ضعف حزب الله في قوته

19 اغسطس 2021
+ الخط -

انتصر حزب الله على لبنان، عندما أحرزَ "انتصاراً تاريخياً إلهياً استراتيجياً" على إسرائيل قبل عقد ونصف العقد. من يومها، لم يتوقف عن إحراز الانتصار تلو الآخر على لبنان... كان قوياً بما يكفي، ليفرض على اللبنانيين "معادلة وطنية مقدّسة" مطلوبة في كل برنامج حكومي ورئاسي. أعني تلك "الوحدة" المطلوبة بين "الجيش والشعب والمقاومة". وعلى قاعدة قوته الجبارة، وبما أن "المقاومة" تعنيه تحديداً، وُجِب عليكَ أن تفهم أن حزب الله هو الطرف القائد في المعادلة، لـ"الجيش والشعب" معاً.

هذه المعادلة عزّزتها صفقة كانت سابقة عليها. هذه المرّة لا شعب فيها ولا جيش، إنما عاشقو السلطة، فمن أراد أن يتبوأ هذه الجنّة ويبقى فيها عليه أن يحترم تقسيم العمل الذي أقامه حزب الله: نحن نشتغل بـ"المقاومة"، أي في إدارة عمل الحزب. وأنتم تهتمون بالبزنس، أي بسرقة المال العام.

ولا بأس، في أثناء ذلك، أن يُشَتم العاملون بالبزنس، بليبراليتهم، بثرائهم وفسادهم. فهذه عدّة المقايضة، إذا نظرتَ إليها من زاويةٍ أخرى. المهم أن المقايضة كانت سارية المفعول. اغتنى بفضلها عشرات من آكلي لحوم البشر، وإنْ بدرجات. وعلى الرغم من التهم الموجّهة إليه بإلاغتيالات السياسية على اختلاف دوراتها، إلا ان "نموذجه" صار هو الأعلى، هو الأقوى بصواريخه، فاتضحت الأمور عند أولئك العشاق، بأن احترام الصفقة هي ضمانة لتلبية شراهتهم، وهي بغير حدود. كلهم من دون استثناء رضخوا لهذه القوة، الحلفاء منهم والمفترَض أنهم الخصوم.

ولكن الحلفاء كانوا أكثر المستفيدين، في مقدّمتهم ميشال عون وصهره المعجزة جبران باسيل. من أجلهم، عطّل حزب الله البلاد، كما عطّلتها نزوات "استراتيجية" أخرى، فكان ما كان، وبفضل القوة والإنتصارات، سجلّ انتصارا آخر: صعود عون إلى الرئاسة، فأطلق شهية صهره جبران الجائعة العطشى، وحرّره من كل القيود الممكنة، وفتح له الطرقات الواسعة والضيقة، من دون أن ينسى حصّة الخصوم المزعومين من غنائم الدولة.

تقسيم العمل الذي أقامه حزب الله: نحن نشتغل بـ"المقاومة"، أي في إدارة عمل الحزب. وأنتم تهتمون بالبزنس، أي بسرقة المال العام

في هذا الوقت، ومنذ ما يقارب الآن عشر سنوات، زادت قوة حزب الله، وأصبح ذراعا يمنى لإيران العسكرية. تقدّمه إيران إلى العالم بصفته "أنجح" مليشيا عاملة في مجالها "الجيوستراتيجي". حظوة ذهبت بعيداً بأن صار لحزب الله مدرِّبون ومستشارون لمليشيات أخرى زرعتها ايران في سورية واليمن والعراق .. وصرتَ تلاحظ ارتفاع إصبع حسن نصر الله، واصْفِرار ابتسامته، كلما أتى على سيرة هذا المجال الإقليمي الواسع، الذي يبدو أمامه لبنان نقطةً تافهة في بحر الإمبراطورية الإيرانية وشجون مخطّطيها من "الحرس الثوري".

أما الآن، بعد الذي حصل، وسوف يحصل، بسبب هذه القوة نفسها، أصبح حزب الله ضعيفاً، بالحجّة، بالبرهان، بالوقائع الحيّة، أو بالثلاثة معاً أحياناً. كيف؟ إليك العناوين، والتي يكاد يسعها هذا المقال.

أولاً: معادلة "الجيش الشعب المقاومة". عن "الشعب" الذي يعني الطوائف بعينها: المسيحيون، شعبياً، صارت لهم سرديتهم الخاصة حول انفجار المرفأ. يحمّلون حزب الله المسؤولية، ويندّدون بتعطيله التحقيق، فيما حلفاء الحزب العونيون لم يعودوا يعرفون كيف يتعاملوا مع قاعدتهم هذه، فيطلقون المزايدات هنا وهناك. وبعضها يطاول حزب الله. ورحى معركة على الشبكة بين أنصار الاثنين، و"اتصالات لتهدئة الجو"... إلخ.

الدروز، ومن دون قرار سياسي، وبعفوية تامة، أوجدوا الحدث الوطني، عندما قبضوا على ثلاثة "مقاومين" كانوا يطلقون على إسرائيل الصواريخ من إحدى تِلال قريتهم، واسمها شويا. وشويا هذه قرية جنوبية، سوف تكرر حوليات التاريخ اسمها بصفتها المنعطف الذي فصلَ طائفة الدروز عن "المقاومة" الحزبلهية فصلاً مبيناً. وإن كان زعماؤهم الطائفيون يطلقون تصريحات التهدئة. وهي أيضاً تصريحاتٌ فارغة، تنْبئ بعكس ما تدعو إليه.

اختفى "الشعب" من المعادلة، وبقي منها "الجيش والمقاومة"

السنّة، في موقعة قرية أخرى، خلدة. حيث اشتبك فيها مسلحون من عشائر العرب مع عناصر من حزب الله. بقصة يعود عمرها إلى سنة واحدة. وتفاقمت أخيرا باشتباكات، أسقطت القتلى والجرحى. ومحورها سلاح حزب الله الذي بدأت العشائر تقلّده، وغايتها إضعاف صواريخه بسلاحها. منطق السلاح ينقلب على صاحبه.

يبقى الشيعة أنفسهم. وقد بيّن كم هم مقموعون من حزب الله. وجديد الوقائع كانت اعتقال شباب من قرية على النهري البقاعية، تجرّأوا وعبروا عن غضبهم من سياسة حزب الله، أمام أحد نوابه، وهو يلقي كلمته في جلسة عاشورائية. وعشرات من الأمثلة على تمرّدات تُخنَق من مهدها، وأخرى يفلت زمامها، والإكراه على اعتذارات على شتائم بحق حسن نصر الله... إلخ. كله يخرج إلى العلن. هذا غير الاغتيالات السياسية، المعبّرة عن قوته، والتي طاولت شيعة خطرين على مصداقيته. منهم كان الشهيد لقمان سليم.

إذاً، اختفى "الشعب" من المعادلة. وبقي منها "الجيش والمقاومة". أما الجيش فهو الذي أطلق سراح معتقلي شباب قرية علي النهري. هو الذي أعاد الأمن إلى خلدة، هو الذي استلم أيضا "المقاومين" الثلاثة الذين احتجزهم أهل قرية شويا. هو الذي تستجير به البيئات الأخرى، والطوائف الأخرى. هو الذي أطلق معركة تحرير النفط من قبضات السياسيين الذين يخبّئونه تحت الأرض، وكشف محاصصة النفط بينهم. هو الذي سقط أفراد منه في انفجار عكّار النفطي، فاختلطت دماؤه بدماء فقراء عكار. هكذا، يبدو الجيش وكأنه يتهيأ لمغادرة المعادلة، فلا يعود ذيلاً لـ"المقاومة" أي لحزب الله.

لا يستطيع أن يطيح حلفاءه القتَلة الفاسدين المدلَّلين. يُبقي عليهم، يسكت عن خروجهم على النص المتفق عليه

أما "المقاومة" نفسها، فلا تسأل... كل طلقة رصاص على الحدود الجنوبية محسوبة، خاضعة لـ"قواعد الاشتباك". أي لاتفاق ضمني بين حزب الله وإسرائيل على تقنين الاشتباك. فلا يتحول إلى حرب، لا يريدها، لا الحزب ولا إسرائيل. على الرغم من خطب الاثنين النارية. لذلك، عندما اندلع القتال بين حركة حماس وإسرائيل في مايو/ أيار الماضي، لم تطلق هذه "المقاومة" رصاصة واحدة ضد إسرائيل. أحد عشر يوما، ومجزرة جديدة بحق أهل غزة، الذين يقودهم حليفٌ للحزب... كل هذا لم ينتج سوى خطابات رنّانة معروفة، وتبريراتٍ مضحكةٍ لعدم الالتحاق بالقتال ضد إسرائيل (من نوع الحفاظ على الأمن في لبنان، مثلاً). كل هذه الأشياء ماذا فعلت بالبند الأخير من المعادلة؟ أي "المقاومة"؟ أو بالأحرى بالمعنى الذي يتحجّج به حزب الله للمحافظة على سلاحه؟ ومصير هذه "المقاومة"؟ خرجت كل الأطراف من المعادلة، صارت "المقاومة" وحيدة، أمام لا شيء، أمام العدَم.

أما "المقايضة" تقسيم العمل، فحدّث ولا حرَج. "لنا المقاومة ولكم البزنس" اشتعلت في بطون السياسيين ناراً من لهب. صرعتهم المقايضة. الفساد كوّنهم ودرّبهم على إدارة نهب الدولة وتخريبها وتحطيم قوانينها ومؤسساتها. حفلة مجون وفجور جرفت في طريقها اختصاصيي "المقاومة" وأغلقت الحلقة على نفسها. فانتهى تقسيم العمل بين "مقاومة" و"بزْنس"، ودخل الجميع بالجميع. وضباب كثيف اعترى حقائقهم لشدة تداخل مصالحهم وانفلات شهواتهم على خيرات الدولة المُسْتباحة، فلم يعد في وسع أحد التمييز بين "المقاومة" و"البزنس".

اتهامه بتفجير المرفأ؟ أو التحقيق في التفجير نفسه؟ هل يستطيع أن يتملّص من التهمة، مجرّد التهمة، بعدما دأب على إعلام اللبنانيين، بالطرق المختلفة، بأنه هو صاحب القرار الأمني، العسكري، السياسي؟ بعدما عاد من سورية منفوخ العضلات، يتباهى بإقليميته، وبأن لا شيء... لا شيء أبداً ينال منه، أو يفلت من رقابته.

وبعد ذلك، بعدما بيّن كم هو قليل الحماسة للتحقيق الدولي بشأن انفجار المرفأ، واكتفى بالتحقيق المحلي، لعلّه يكون متواطئاً... لكنّ قاضياً شجاعاً، طارق بيطار، استدعى رؤوساً من هذا "النظام" الذي بات حزب الله من حُماته، بعدما اخترقه بمائة اختراق واختراق. وكانت إطلالتا حسن نصر الله المشكِّكتين بحيادية القاضي، فتنفّس "المسؤولون" الصُّعَداء، واخذوا يلهون بلعبة حصانتهم المطلقة.

لا يعرف حزب الله غير أن يكون مليشيا ممتازة لإيران. وقد برهن على ذلك في "المعارك" كافة التي خاضها ضد الشعب السوري

والواقع أنّ حزب الله، بسبب قوته الماضية التي فرضت عليه مسؤولياتٍ لم يكن ربما يتوقعها، في سكْرة انتصاراته التي لا حدود لها، وما رافقها من تبجّح ونرجسية مفرطة عمياء، بسبب هذا كله أصبح واضحاً أنّه لا يقصف إسرائيل بصواريخه، إلا إذا اقتضت المصلحة الإيرانية ذلك، وخارج "قواعد الاشتباك". أي أنه محكومٌ بالمعادلة نفسها التي أرست قوته. وهكذا، فقدَ حجة احتفاظه بسلاحه. خصوصاً إذا كان جزءاً من صفقة بين إسرائيل وإيران، أو بين إيران والولايات المتحدة. مهما كان شكل هذا الجزء. وبذلك، يطرح مصير سلاحه بقوة، من دون خوف، بعد الخوف الذي يعرفه اللبنانيون الآن، وهم يسقطون في بُؤَر الموت المتسلْسل. وهو لا يستطيع ان يطيح حلفاءه القتَلة الفاسدين المدلَّلين. يُبقي عليهم، يسكت عن خروجهم على النص المتفق عليه، يساير شركاءهم من اللصوص، ومن دون رفّة جفن. ثم يهدّدهم بملفات فساد هو نفسه متورّط بها.

ولا يعرف طبعاً أن يحكم، أو ربما يتنافى عنده الحكم مع "المقاومة". ربّى الحزب أجيالاً وتربّى هو نفسه على التحكّم، على لغة الغلَبة بالصواريخ. وهذه مفاهيمُ لا تساعد، لا على تصوّر، مجرّد تصوّر... كيفية وقف الانهيار، ولا كيفية حلّ المعضلات الحياتية المختلفة، القاتلة للحياة (آخر تسْكيجاته، استيراد النفط من إيران، بعد نسف استيراد النفط من العراق على يد وزير من حلفائه).

لا يعرف حزب الله غير أن يكون مليشيا ممتازة لإيران. وقد برهن على ذلك في "المعارك" كافة التي خاضها ضد الشعب السوري، فبرع في القتل والقنص والسرقة والتشبيح والحواجز والمواكب العاشورائية... وقد سماها وقتها "حرباً على الإرهاب". نجح إلى حدّ أنه صار القائد الأعلى لمسيرة الموت الوطني. لبلوغ اللبنانيين مرحلة اليَتَم، برحيل وطنهم، من الآن وحتى انبعاث قد يتأخر جيلا بأكمله.